دائمًا ما تكون رحلة قراءتي للمنتج الفكري لعبد الفتاح كيليطو رحلة مليئة بصنوف الإبهار والإمتاع، ففي كلّ مرة أذهبُ فيها إلى القراءة لهذا الناقد المغربي الفذّ تزداد قناعتي بأنّه ما خُلَقَ إلا للأدب، للبحث فيه والتنظير حوله والكتابة في دوائره.
لعلّ أوّل ما لفتني عندما هممتُ بقراءة كتاب كيليطو الجديد "التخلي عن الأدب" هو عنوانه، فالعنوان يتناقض بشكل صريح مع موضوعات الكتاب التي تتحدّث عن الأدب وتدور في مجاله، وفعلًا ما إن وقعت عيني عليه حتى استفزّ ذهني للمضي في قراءة الكتاب، لا لشيءٍ إلا لأكتشف ماورائياته، ولأرضي فضولي حول مقصده وما يُخفيه.
يُقرّ كيليطو أنّ موضوع التخلي عن الأدب عند المعري يكمن في تخليه عن الأنماط التقليدية في الشِعر، وهو الذي ساهم في سيرورة الشعر وفي بقائه حيًا ومتجددًا
مع كلّ صفحة كنتُ أقطعها في الكتاب كان ينكشف أمامي سرٌّ جديد من أسرار العنوان، ومع كلّ حرف كنتُ أقرأه منه أزداد قناعة بذلك الخداع الظريف الذي يحمله العنوان، والذي يُوحي للقارئ في مستوياته اللفظية العامة بأنّ التخلي عن الأدب هو تركه وهجره وعدم تناوله والرجوع إليه، ويستبطن في معناه إشارة إلى أنّ التخلي قد يكون في بعض الأحيان شرط ضروري للسيرورة ولاستمرار الوجود، أو كما أورد كيليطو في مدخله عن الكتاب من أنّ التخلّي قد يكون في بعض الأحيان موضوع الأدب الأساس وسرّ استمراره.
يتكوّن الكتاب من مدخل بسيط ومجموعة مقالات منفصلة متصلة، يغوص فيها كيليطو في الأدب العربي القديم، يحفر فيه ويُفنّده، ويربط بينه وبين الأدب الغربي، ويسلّط الضوء على أبرز أبطال التخلي فيه، الذين كان تخليهم عنه موضوعًا له وسرًّا من أسرار استمراره.
وأول أبطال التخلي الذي ذكرهم وركّز عليهم كيليطو في أطروحات كتابه هو أبو العلاء المعري، ويورد كيليطو عن المعري بأنّ موضوع التخلي عنده بدأ يظهر في ديوانه اللزوميات، الذي ألّفه بعدما قرّر اعتزال الناس بسبب موت والدته، وبعدما أطلق على نفسه وصف رهين المحبسين (ويقصد بهما منزله وعماه)، فاللزوميات شكّلت نقلة نوعية في كتابة الأدب عنده، حيثُ انتقل فيها من اتباع النمط التقليدي للشعر، ومارس نمطًا جديدًا يصعب تحديده، فبحسب كيليطو فإنّ طريقة الكتابة الشعرية التي اتبعها المعري في كتابة "اللزوميات" تختلف بشكل كبير عن الطريقة التي اتبعها في كتابة ديوانه السابق الذي عنونه بـ"سقط الزند"، وبحسبه فالمعري "تخلى في اللزوميات عن الأنواع التقليدية التي اعتبرها مبنية على "المَيْن"، أي الكذب. فمثلًا يعيش الشعراء في الحواضر، لكنهم يتشبهون بالبدو وبتقاليدهم في العيش وفي صناعة الشعر، الواقع شيء وما ينشئونه بعيد عنه، وهذا ما يُعدّه كذبًا... بتخليه عن تقاليد الشعر القديمة تنكّر أبو العلاء بالضرورة لـ"سقط الزند"، التخلي عن الأدب فيما يخصه هو الابتعاد عن الأغراض التقليدية عن "المَيْن"، عن محاكاة ما مارسه وما وصفه السابقون.
يُقرّ كيليطو في حديثه السابق بأنّ موضوع التخلي عن الأدب عند المعري كان تخليه عن الأنماط التقليدية في الشِعر، وهو الذي ساهم -وبغض النظر عن قوة الأنماط الجديدة- في سيرورة الشعر وفي بقائه حيًا ومتجددًا.
يستكمل كيليطو حديثه عن أبطال التخلي في الأدب العربي القديم، فيذكر الزمخشري الذي كان من أشدّ المنافسين للحريري، وبرع في كتابة المقامات، ورغمَ أنّه ألّف خمسين مقامة، وهو ما يُعادل عدد مقامات الحريري، فإنّ إقراره بعدم إمكانية منافسة الحريري، واعتباره أنّ الحريري له سلف وليس له خلف، دفعه إلى أن يُعلن اعتزاله عن الخوض في شؤون الأدب، حيثُ إنّ مقاماته جاءت تحمل موضوعًا عنوانه الانقطاع عن الأدب، والتوقف التام عنه، وقد نظمها ليعظ فيها نفسه وينهاها أن تعود إلى ديدنها الأول، فالزمخشري بحسب كيليطو "أعلنَ عن التقاعد، لكنه لم ينقطع عن الكتابة، جعل من نبذه للأدب موضوعه؛ كلّ قوله وداع للأدب، وهكذا بابتعاده عن الأدب ظلّ في إطاره. تلكَ كانت تجربته الفذّة بناها على الخوض في شؤون الأدب مع القول الصريح بالتنازل عنه".
ولا يتوقّف كيليطو عند هذا الحدّ، فهو يتبحّر في العديد من مؤلّفات الأدب العربي القديم، وأبرزها "مقامات الحريري" وكتابي "البخلاء" و"الحيوان" للجاحظ و"رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، حيثُ يوضّح أسرار هذه المؤلّفات، ويبيّن كيفيات ارتباطها بالأدب الغربي والروايات الغربية.
وفعلًا، فقد استطاع كيليطو في مؤلّفه هذا عن الأدب العربي القديم، أن يُعيدنا إليه؛ ويأخذنا في رحلة حول أسراره وجمالياته، ليؤكّد لنا بأنّ القطيعة بينه وبين الأدب العربي الحديث هي قطيعة غير ممكنة، وليثبت بأنّ تخلي الأدباء المعاصرين عن طرقه الكتابية في اللحظة الراهنة لا يعني بأي حال من الأحوال نبذه أو هجره أو كراهيته، فالعودة إليه ستبقى مهمة طالما بقي التخلي عنه يحضر بصفته موضوعًا يُعاد فيه إليه ليُكتبْ عنه ويُنقّب فيه.