ربما كان بسمارك محقًا حين قال "لا تبنى الدول إلا بالحديد والنار"، إذْ تكاد لا توجد دولة في العالم العربي تضرب بجذورها في الأرض كمصر، فمحمد علي باشا القادم من ألبانيا أسّس دولته الحديثة على الطراز الأوروبي (الفرنسي تحديدًا) ومارس كافة أنواع العنف الفيزيائي على البشر، بدءًا من مذبحة القلعة التي أسرف فيها بقتل آخر مماليك القاهرة، حتى وصفها الجبرتي في تاريخه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" بقوله: "امتلأت مزابل القلعة برؤوس القتلى، بعد أن أمر محمد علي برميها"، وليس انتهاءً بمعاقبة الفلاح الذي قلع أشجار القطن فقطعت أذناه وجدع أنفه، ولا يقتصر الأمر على العنف فحسب، بل يعتبر السياسي الأكثر دهاءً في الشرق، فهو الذي "خاب أمله" بعد ترجمة جزء من كتاب مكيافيللي واستغرب شهرة الكتاب في أوروبا، قائلًا: "إنني أعلم من دواهي السياسة أكثر مما في هذا الكتاب".
مارس محمد علي كافة أنواع العنف، بدءًا من مذبحة القلعة التي أنهت آخر مماليك القاهرة، إلى معاقبة الفلاح الذي قلع أشجار القطن فقطعت أذناه وجدع أنفه
تعرفنا الباحثة المصرية نجلاء مكاوي على أدوات السيطرة على المجتمع في دولة محمد علي باشا، عبر كتابها المميز "التوظيف السياسي للدين والقانون في مشروع محمد علي" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، ويقع الكتاب في أربعة فصول، وقائمة مراجع في غاية الأهمية، حتى يمكن اعتبار المراجع التي استعانت بها الباحثة، مدخلًا مهمًا لمن يريد الاستزادة عن دولة الباشا الكبير.
اقرأ/ي أيضًا: الازدواجية اللغوية والعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية عند العرب
لعبة الدين عند محمد علي
بما أن الإسلام وحده هو "العقد الاجتماعي" بين الدولة العثمانية ورعاياها، ولأن العلماء هم الذين يمتلكون القدرة على إضفاء الشرعية على أفعال الدولة ويمتلكون القدرة على استنفار المجتمع لأي حراك سياسي يريدونه، فقد حرص محمد علي على أن يكون في صورة الرجل الذي يستطيع حسم الصراعات الجارية آنذاك، ويقر العدل عند سيادة الظلم والفوضى، ويشترك مع العلماء في تأدية الفروض الدينية (ما يذكرنا بسلوك السيسي أمام مرسي) فظهر محمد علي بمظهر الرجل المثالي.
بعد توليه السلطة كان مضطرًا إلى المحافظة على إسلامية الحكم، ويعود ذلك بحسب تحليل الكاتبة أولًا: إلى أنه "نائب السلطان العثماني، وهذا الأخير غير راضٍ عن وجوده ومتحفزٌ لإزاحته، وهو رسميًا يستمد منه شرعيته السياسية، وثانيًا: لأنه كان ضروريًا الحفاظ على الشرعية المستمدة من القوة الداخلية -أي العلماء- التي ولّته بالحفاظ على شروطها للحكم (العدل والمشورة) حتى يمكنه استخدامها في مواجهة السلطان لتثبيت حكمه، فقد ساعده العلماء في ذلك عندما أصدر السلطان عام 1806 فرمانًا بعزله وعودة المماليك إلى السلطة، فاستنجد محمد علي بعمر مكرم والعلماء واتفقوا على تقديم التماس برفض ذلك. وبالفعل، عدّد العلماء في عريضتهم للسلطان مساوئ المماليك ومظالمهم، وأطروا على أفعال محمد علي، وأكّدوا أنهم لا يجيزون تغييره وهم متمسكون به".
إلا أن عمر مكرم لم يسلم منه، فقد تخلص محمد علي منه وعزله من نقابة الأشراف ونفاه إلى دمياط، واستند في هذا إلى فتوى شرعية "لكونه أدخل جملة من أقباط وأشرار الناس في سجل الأشراف"، وبالطبع كان ذلك بترتيب وتواطؤ عدد من المشايخ لشرعنه عزله، فقد قام باستمالة مجموعة من العلماء وفتت حركتهم، لأنَّه أدرك أن تنفيذ برنامجه "التحديثي" يتطلب الإطاحة بأصحاب الامتيازات واستبدال أنصاره بهم.
في المحصلة النهائية، تتوصل الباحثة إلى أن استخدام الإسلام في مشروع محمد علي كان كجامع سياسي بين الرعية والنخبة والحاكم، لأنه الأداة الوحيدة التي يمكن أن تجمع مجتمع ونخبة متباينة الأجناس. وكان المال أداة لضمان الولاء. إذًا "كان توظيفه للدين مرنًا مرتبطًا بحاجاته من جهة، وبانفراد الدين في القدرة على حل المشكلات، أو عدم استثارته عندما يكون هو واجهتها أو إطارها من جهة أخرى".
سلب الأرواح
ينزل الباشا العقوبات على المتهربين من التجنيد الإجباري، وأعمال السخرة في المشروعات العامة، والمتهربين من دفع الضرائب.. إلخ، ولم يكن يسمح لأحد بتحديد نوع العقوبة سواه، بغض النظر عن آراء العلماء الشرعيين، إذ تقوم فكرة العقوبة لدى محمد علي على الترهيب والردع، فمثلًا كان يجمع حكام الأقاليم في وسط حقل ويأمر بحفر حفرة ويدفنهم فيها أحياء، والسبب في هذا هو تأخرهم/تقصيرهم في جمع الضرائب، وعدم قدرتهم على ضبط الفلاحين، ما يعنى للبكباشي تعطيل أعمال الزراعة. لكنه أدرك بعد مدة أن تمسكه بالقسوة لا ينتج سوى مزيدًا من أعمال التمرد، وهذا يكلفه خسائر في الأرواح بسبب اتساع العقاب وعشوائيته، فهو يؤمن بأن القتل هو وسيلة الردع الفاعلة. وقام الباشا "بإعادة النظر في فكرة القانون وطرائق العقوبات، وهو ما حدث تدريجًا".
استخدام الإسلام في مشروع محمد علي كان كجامع سياسي بين الرعية والنخبة والحاكم، لأنه الأداة الوحيدة التي يمكن أن تجمع مجتمع ونخبة متباينة الأجناس
بناءً على ما سبق بدأ التخلص من القسوة المفرطة لعدم نجاعتها، وحاجة السلطة إلى آلية إخضاع أكثر تنظيمًا وفائدة، ما أدّى إلى إعادة تنظيم سلطة العقاب وفق أنماط تضمن اقتصادًا سياسيًا للجسد، إذ "كان الضرب (الجلد بالكرباج، والفلقة/الضرب على القدمين) عقوبة أساسية، لكن مزاوجته بعقوبات أخرى وتقنينه وضبطه، جاء كعقوبة متدرجة، أي في عدد الضربات التي تزيد في حال تكررت المخالفة، وجاءت المحاولات لإلزام المسؤولين/المأمورين بعدم الضرب زيادة على القانون، بما يُحدث "تلفًا للمجرمين" فبسبب عشوائية الضرب وقسوته أحيانًا يموت المُعاقب، أو تتلف أحد أعضائه، والنتيجة هي خسارة قوة بشرية لم تعد المصالح القائمة عليها تتحملها".
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "السلف المُتخيّل".. أحمد بن حنبل التاريخي والمُتخيّل
لهذا تستنتج الباحثة أن محمد علي رغم اهتمامه "باستخدام تقنيات وأبنية حديثة للدولة، كان القانون فيها أداة لتطويع الإنسان (الآلة) واستغلاله وتأهيله، فلم يكن يرى المصريين إلّا جموعًا غير عقلانية، فاقدة القدرة على التمييز بين الخير والشر، غير مؤهّلة للتطور، مصدر خطورة دائم، تحتاج إلى تربية السلطة، والقانون/العقاب هو أداة التربية. ورغم حرصه على صورة المُحدث على النسق الأوروبي، فإنّه لم يُقم نظامًا قانونيًا عقلانيًّا كاملًا بالانتقال إلى أنماط مختلفة للسيطرة، وتثبيتها، بل "زاوج ووفّق بين المرجعية الأوروبية والإسلامية" برأي الكاتبة، وفي هذا لم يحكمه سوى أهدافه من "الدولة الحديثة"، وتصوره الخاص لوظيفتها".
اقرأ/ي أيضًا: