يقال إنَّ العمل الأكاديمي يحاول دائمًا اللحاق بالتطوّرات الحقيقية على الأرض، وواقع الثورات العربية والمكتوب حولها دليل واضح على صحة هذه المقولة عمومًا، لكنَّ الجهد البحثي حول الثورات العربية في الأكاديمية الغربية والعربية يبقى متباينًا كمًّا ونوعًا، فبينما أنتجت الأولى كَمًّا لا يستهان به من التنظير والتفكيك لهذه الأحداث وأصبحت هناك مكتبة متكاملة الأركان عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما بعد 2011 في الغرب، لا تزال تعاني الثانية -برغم أنها ابنة الحدث- من ضعف ملحوظ في التحليل الأكاديمي الرصين.
في الأنظمة السياسية التي تسمى "النيو أبوية وراثية" يكون الحاكم مضطرًا إلى المساومة مع الأجهزة السيادية كالجيش والأجهزة الأمنية
في هذا السياق يبرز كتاب "الثورات العربية: عسر التحول الديمقراطي ومآلاته" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، 2018) ليكون أحد الكتب المهمة والمرجعية في هذه المسألة عربيًا.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة لبنان.. والطريق نحو التأسيس لتاريخ "لبناني" نظيف
هذا الكتاب الضخم (880 صفحة) هو نتاج مؤتمر علمي عقده المركز عام 2016، شارك فيه نخبة من الباحثين العرب والغربيين، كعبد الوهاب الأفندي، هاني عواد، خليل العناني، رايموند هينبوش، أرنود كورز، إضافة إلى بعض السياسيين كعبد الفتاح مورو. ويتضمن أبرز أوراقهم العلمية وكلماتهم التي بلغت 26 ورقة، مقسمة إلى أربعة أقسام:
- شهادات وقراءات.
- في إعادة قراءة تحولات الثورات العربية.
- مأزق الدولة التسلطية في تجربة الثورات العربية.
- التحولات الاجتماعية - السياسية.
ونظرًا لاتساع الكتاب، فإنني سأقوم بمراجعته في مقالتين، تحاول كل واحدة منهما تلمّس جوانب مختلفة من الأطروحات الواردة في الكتاب.
الدولة والقوى الثورية: معركة المساحات
يناقش المفكر اللبناني جلبير الأشقر الشعار الأشهر الذي صدحت به حناجر الشباب في ميادين العالم العربي: "الشعب يريد إسقاط النظام" متسائلًا: "هل يستطيع الشعب إسقاط النظام والدولة لا تزال قائمة؟ تأمُّل في المعضلة الرئيسة للانتفاضة العربية". ليقوم في البداية بالتفريق الاصطلاحي والمعنى الدلالي والتاريخي لمفهومي "الدولة" و"النظام"، إذ تكون وظيفة الأول "State" هي القمع، كما يتفق ماركس وفيبر، أو بلغة كارل شميت الحادة "الحق في إزهاق الأرواح البشرية"، كما أن عمودها الفقري هو أجهزتها المسلحة من جيش وشرطة، وفي المرتبة الثانية الوظائف الإدارية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
أما الثانية "Regime" والتي أراد الشعب إسقاطها، فتدل على نظام حكم سلطوي، سواء كان استبدادًا جماعيًّا (طغمة عسكرية) أم فرديًا - عائليًا. وهذه الأخيرة هي الأكثر انتشارًا في المنطقة العربية، لأنها تشير إلى صاحب فردي للنظام، فنتحدث عن نظام مبارك ونظام بن علي أو نظام الأسد.. الخ.
ويكمن الإشكال الأساس في العالم العربي في علاقة النظام بالدولة؛ "فحرص الجمهور على الدولة هو حرص على وظائفها المفيدة للعموم من حفظ للنظام "Order" كنقيض للفوضى". ويفرق ويفكك الأشقر بين بنية الأنظمة العربية، ففي مصر وتونس التي استغل فيها الحكام الدولة ونهبوها في ظل حكم دكتاتوري، لكنها ليست ملكًا لهم وليس توريثها لأفراد عائلتهم بمضمون حتى لو جرى التخطيط له في مصر، ويعود ذلك إلى كون جهاز الدولة سابق بتركيبه لحكمهم، ومستقل عن شخص الحاكم الذي وصل إلى سدته، وفي هذا النوع من الأنظمة التي تسمى "النيو أبوية وراثية" يكون فيها الحاكم مضطرًا إلى المساومة مع الأجهزة السيادية كالجيش والأجهزة الأمنية.
أما الدول العربية مثل سوريا وليبيا التي يطلق عليها "الأبوية الوراثية" فقد جرى تشييد أجهزة الدولة من الأساس، أو تم إعادة تركيبها من قِبل الأسرة الحاكمة حتى يلائم إدامة سلطتها، وتكون سلطة الحاكم مطلقة إزاء الأجهزة السيادية، وهذا الفرق الوحيد بين هذه الأنظمة بحسب المفكر اللبناني.
في الأنظمة السياسية الأبوية الوراثية، جرى تشييد أجهزة الدولة من الأساس، أو تم إعادة تركيبها من قِبل الأسرة الحاكمة حتى يلائم إدامة سلطتها
المحصلة النهائية التي توصل لها الأشقر هي أنه "لا يمكن إسقاط النظام بالمعنى الأشمل للتعبير بغير تفكيك الدولة، ما دامت الدولة والنظام المرتكز عليها قائمين على الاستبداد والتملك الفردي للملك العام، أكان الأمر في إطار أبوي وراثي أم نيو أبوي وراثي". وبما أن المنطقة دخلت في النموذج الفعلي "لحرب الجميع ضد الجميع" كما يسميها توماس هوبز في عمله الكلاسيكي "لوياثان"، فعلينا أن نواجه النموذج على أرض الواقع، عبر وجود قيادة ثورية تسعى إلى كسب الهيمنة في قاعدة الهرم الاجتماعي كي تتمكن من إطاحة قمة السلطة السياسية، الأمر الذي يتطلب برأي الأشقر استبدال الانشطار العمودي للمجتمع (قبائل، أقاليم/جهات، طوائف) بانشطار أفقي (الشعب ضد النظام، الكادحون والمحرومون ضد المحاسيب ولصوص السلطة) والسعي إلى مد هذا الانشطار الأفقي من المجتمع المدني إلى داخل أجهزة الدولة بالذات.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "معضلات العدالة الانتقالية".. قصة التحول الديمقراطي التي لم تكتمل
يعتبر جلبير الأشقر مستقبل السيرورة الثورية طويلة الأمد مرهونًا بقدرة القوى التقدمية على "مد هيمنتها إلى داخل أجهزة الدولة، وتحديدًا المؤسسة العسكرية حيث تستطيع شل النظام ودحره بأقل تكلفة بشرية ممكنة، وتشكيل حكومة ثورية مؤقتة تحوز مقومات الدولة الأساسية، من دون انفلات أمني وانهيار اقتصادي وأزمة معيشية حادة"، بهذه الطريقة فقط يمكن برأيه إسقاط النظام والشروع في إعادة تركيب الدولة من دون أن تنهار وظائفها التي يحرص عليها المجتمع". وبحسب كارل كاوتسكي فإننا لا نستطيع هدم البيت بكامله، لأننا بحاجة إلى غرفة نسكنها.
وورقة الأشقر هذه التي كانت افتتاحية الكتاب بالغة الأهمية والتكثيف، لأنها توضح أنَّ "عسر التحول الديمقراطي" ليس مرتبطاً فقط بأخطاء الثوار، بل بخطايا الأنظمة التي رهنت مستقبل البلاد لصالحها، وألغت الحياة السياسية.
الدولة الخلدونية.. من جديد؟!
في بحثه المعنون "نهضة أم سقوط؟ أزمة الدولة العربية" يتقاطع مايكل هدسون مع الأشقر في بحثه عن المشكلة في "الدولة" وليس في "أفعال الثائرين" إذ يعتبر أنَّ أغلبية "مواطني العالم العربي الشجعان" تفتقر إلى القيادة والتنظيم والصيغة الشرعية التي تمكنهم من التغلب على نماذج رثة وبغيضة من الاستبداد العسكري والعائلي.
يعتبر جلبير الأشقر مستقبل السيرورة الثورية مرهونًا بقدرة القوى التقدمية على مد هيمنتها إلى داخل أجهزة الدولة، لكي تستطيع شل النظام ودحره بأقل تكلفة بشرية ممكنة
يستعرض هدسون المحاولات المتعددة لفهم بنية الدول العربية، ثم يكثّف "معضلة" الدولة العربية المختلفة عن "الدولة" في الغرب، فيقول: "ليست الدولة شيئًا دائمًا وموجودًا ما فوق السياسة، بل هي مرتبطة ارتباطًا حميميًا بـ"النظام". ولا يحمل الأنموذج الخلدوني شبيهًا له في فهمنا الأوروبي الفيبري والليبرالي للدولة الحديثة.
اقرأ/ي أيضًا:
بحسب رؤيته لمستقبل العالم العربي يتوصل إلى أن "الوسط العربي سيبقى على الهامش إلى أن تبرز قيادة فاعلة منبثقة من المجتمع"، إذ يمكن للمؤسسات "الرجعية" بتعبيره أن تقوم بدور إعادة تشكيل الوسط كالقبائل والمؤسسات الدينية، وما يمكن إنقاذه من عناصر بيروقراطية في الدولة، إذ إن الأحزاب السياسية تم تفريغها من مضمونها من خلال الأنظمة الاستبدادية أو مارست تلك الأنظمة عقودًا من "استئصال الأحشاء" للقوى السياسية.
ولادة المواطن الشجاع
من الملاحظ أن معظم الأبحاث الغربية تستخدم مصطلح انتفاضة "Uprising" بدلًا من ثورة "Revolution" لتوصيف الثورات العربية 2011، ومحاولة حل هذه القضية الإشكالية عند الأكاديميين هو محور بحث ويندي بيرلمان: "الثورة والولادة الجديدة في سوريا" متخذةً تعريف جاك غولدستون للثورة مصدرًا رئيسًا، فهو يعرفها بأنها "جهد لتغيير المؤسسات السياسية والتعليلات التي تسوغ السلطة السياسية في مجتمع ما، مصحوبة بتعبئة جماهيرية رسمية أو غير رسمية، وأفعال غير دستورية تقوض السلطات القائمة". فهل تريد بيرلمان مقاربات أكاديمية تركز على بنى الدولة أم الدخول في معركة المفاهيم؟ إن ما تبحث عنه أستاذة العلوم السياسية خريجة هارفرد هو التأثير النفسي والعاطفي والثقافي، فالناس العاديون الذين عوّدوا أنفسهم على الحكم الاستبدادي، تحولوا إلى مُتحدين للنظام، وهذا يؤشر إلى نهاية جزء مما كان يُعَرِّفُهم بوصفهم "مواطنين" والبدء باكتشاف مناحٍ جديدة في أنفسهم، وهي تحاجج بأن هذه العملية من التحول الذاتي شيء قريب من الولادة الجديدة، وهي الأساس الثوري لما حدث في العالم العربي عام 2011. فقد كان العرب -والسوريون تحديدًا- يتفادون الحديث في السياسة، ويقولون: "الجدران لها آذان" لكن بعد 2011 انتهى كل شيء وبتعبير أحدهم "خلص" كسر الناس حاجز الخوف ولن يعودوا إليه أبدًا. وتقول الباحثة بأن الثورة السورية يجب أن تفهم أولًا وقبل أي شيء أنها تمرد على هذا الخوف وعلى آثاره الشالّة سياسيًا، مستشهدة بالكاتبة الروائية ديما ونوس حين تقول: "كانت معركة السوريين معركة ضد الخوف قبل أن تكون معركة ضد زعمائهم".
وتميّزت ورقة بيرلمان باستنادها إلى مقابلات مفتوحة مع أكثر من 300 سوري مهجّر في تركيا والأردن، كما أنّها شاهدت العشرات من المقابلات المتلفزة وقرأت العديد من التجارب الشخصية في الثورة السورية، قائلة: "قد طوّر ألوف السوريين اليوم الإدمان على الحرية والتمرد الجماعي"، وإن هذا التحول من الخنوع إلى الحرية يخلق شخصًا جديدًا. ولعل إحدى اللافتات المصورة في ميدان التحرير عبرت عن حالة كثير من الشباب العرب، في بطاقة هوية ساخرة ما يأتي:
"الاسم: مواطن
مكان الولادة: ميدان التحرير
تاريخ الولادة: 25 كانون الثاني/يناير 2011"
المهنية العسكرية الجديدة
يدرس الباحث السوداني حسن الحاج علي أحمد العلاقات المدنية-العسكرية في بلدان الثورات العربية ويركز على مصر وسوريا واليمن. وقبل أن يشرع في بحث تلك البلدان، قدم لنا مدخلًا نظريًا حول المهنية العسكرية، بدءًا من صمويل هنتنغتون وناقده موريس جانويتز (وقد عرضنا هذا الموضوع بتعمّق في مواد سابقة). ويستعرض الباحث تاريخ نشأة المؤسسات العسكرية وعلاقتها بالبنى الاجتماعية القائمة، كالقبيلة في اليمن الذي يعتبره مايكل نايتس اختراقًا يمكن أن يكون بمنزلة نوع متطرف من السيطرة المدنية على العسكريين، ما يجعل الجيشَ فاشلًا عاجزًا عن الفعل، إضافة إلى أن الجيش اليمني -وسائر مؤسسات الدولة- حديث التأسيس؛ لذلك لم تتمكن من ترسيخ الاحترافية.
أما سوريا وبسبب تسيس الجيش سابقًا، استطاع الأسد الأب أدلجة الجيش عبر الحزب، وعندما تماهى الجيش مع الحزب سياسيًا، تحققت "السيطرة المدنية" برأيه، وهو بالنسبة للكاتب سبب النجاح في تحقيق استقرار نسبي في السيطرة المدنية على الجيش، لكن احترافيته الجديدة برزت في بعدها الأمني بروزًا حادًا، وهنا يرى الباحث أنَّ البعد الأمني والعسكري واحد! بينما يرى أنَّ مصر تملك جيشًا احترافيًا إلى حد ما، من حيث نشأته وتدريبه ومهماته، وتتجسد أبعاد هذا المهنية الجديدة في البعد الاقتصادي والأمني، بسبب رسوخ المؤسسة، إذ استطاعت تأسيس شبكة تحالفات مع قطاع الأعمال والبيروقراطية، لتؤمّن مصالحها ومصالح الشبكة المتحالفة معها!
استطاع الأسد الأب أدلجة الجيش عبر الحزب، وعندما تماهى الجيش مع الحزب سياسيًا، تحققت "السيطرة المدنية"
برغم أنَّني مهتم جدًا بهذا المجال إلّا أنني لن أناقش بالتفصيل ما يطرحه الدكتور حسن الحاج علي، وأقول باختصار: إنَّ سيطرة الأسد على الجيش وحزب البعث معًا، لا تجعل الجيش خاضعًا للبعث، ولا تجعل "الطيار الحربي حافظ الأسد" مدنيًا يسيطر على الجيش، وكذلك عندما يسيطر "ضباط القبيلة" على مفاصل في الجيش ويفشلون في تكوين مؤسسة عسكرية احترافية، فإنَّ القبيلة ذاتها لا تكون مسيطرة بالمعنى المدني على الجيش.. هذا في التحليل الأوليّ، أما عندما نتعمّق في قضية العلاقات المدنية العسكرية فهي تعني بالدرجة الأولى خروج "القوة" من دائرة الصراع السياسي، ومنع الجيش من فرض رأي سياسي بالقوة على بقية الأطراف، سواء كان الجيش كمؤسسة هو صاحب هذا الرأي، أم تم استخدامه من قبل حزب أو فئة مجتمعية لفرض هذا الرأي، وبهذا الفهم الأعمق لمشكلة العلاقات المدنية العسكرية، فإنَّ الدول الثلاث يسيطر فيها العسكري على المدني بامتياز، قبل الثورات العربية، وبعدها.
اقرأ/ي أيضًا: العدالة الانتقالية في المغرب.. رد الاعتبار إلى السياسة والعمل السياسي
ختامًا: فإنَّ المؤكد حتى اللحظة أن الثورات العربية قد قلبت العالم رأسًا على عقب، وما عاد بالإمكان تخيل عودة العرب كما كانوا قبل عام 2011، فما حصل قد هز البنى الاجتماعية والسياسية لهذه المنطقة إلى الأبد، وما نعيشه في هذه الأثناء هو آثار "العطب" الذي ورثته دول ما بعد الاستعمار. لكننا في العمق نشهد تشكل عالمٍ عربي جديد، بدأ من تونس "الثورة المجيدة" ولن ينتهي بالجزائر والسودان، بل سيتمد ليشمل الدول التي تعرضت لعنف أشد.. ويبقى الوصف الأدق لهذه اللحظات قول غرامشي: "القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية شديدة التنوع".
اقرأ/ي أيضًا:
الازدواجية اللغوية والعلاقة بين الشفوية والكتابة التاريخية عند العرب