صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ضمن سلسلة "ترجمان"، كتاب "شخصية المهاجر"، وهو من تأليف توماس نيل وترجمة إسلام أحمد وبول طبر، ويتضمن سبعة عشر فصلًا تتوزَّع على أربعة أقسام، وتتناول موضوعًا في جدّيًا وجديدًا، قلَّ من تطرق إليه من علماء الاجتماع الإنساني، وهو موضوع الهجرة، وفلسفتها، وظروفها التاريخية، وسماتها العامة، وعلاقتها بـ "التشرد" كما يراها المؤلف، وأبرز محطاتها التاريخية. يقع الكتاب في 384 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
القرن الحادي والعشرون والمهاجرون
سيكون القرن الحادي والعشرون قرنَ المهاجِر بامتياز، فمع مطلعه كان عدد المهاجرين الإقليميين والدوليين أكثرَ من أيّ وقت مضى في التاريخ المدوَّن، وهو مليار مهاجر (14 في المئة من سكان العالم) أو يربو قليلًا، مع ما تفيد به الدراسات من أن كلَّ عقدٍ مقبل سوف يشهد زيادة في نسبة المهاجرين من مجموع سكان الكوكب، الذين مثّلت الهجرة لدى بعضهم أحيانًا ضرورةً حتميّة، اقتصادية وسياسية، أو حتى بيئية؛ إذ إنّ الملاحظ أن التغير المناخي مثّل عاملًا في مضاعفة الهجرة الدولية، ومن المرجّح أنه سيبقى كذلك على مدى الأربعين سنة المقبلة. ومن النسب العالية كذلك نسبة أولئك المهاجرين الذين لا يملكون وضعية قانونية أو وثائق في بلدانهم.
يتناول الكتاب موضوعًا جديدًا قلَّ من طرق إليه من علماء الاجتماع الإنساني، وهو موضوع الهجرة، وفلسفتها، وظروفها التاريخية، وسماتها العامة
إننا جميعًا في طريقنا إلى أن نصبح مهاجرين، فالناس اليوم باتوا، بخلاف أيّ فترة زمنية ماضية، يُكثِرون من قطع المسافات وجَعْلِها أبعدَ في كل مرة، وخارج حدودهم الإقليمية، أما الذين لا يعبرون هذه الحدود فإنهم مستعدون للانتقال إلى أعمالهم مسافات أطول وأبعد حتى لو اضطروا إلى تغيير وظائفهم ومساكنهم، فإن لم يفعلوا يلجؤون إلى "الهجرة القصيرة" عبر الجولات السياحية في العالم.
من هذه الظواهر ما يتصل بإفقار الطبقة الوسطى في بعض الدول الغنية، بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وما أعقبها من إجراءات تقشف وخفض ميزانيات برامج الرفاه الاجتماعي وارتفاع معدلات البطالة، وأدت أزمة الرهن العقاري إلى إجلاء ملايين الأشخاص في العالم من منازلهم، بينهم 9 ملايين في الولايات المتحدة الأميركية وحدها، فباستحواذ المستثمرين الأجانب والحكومات على 540 مليون فدّان في العالم منذ عام 2006، أجبروا ملايين صغار المزارعين على الجلاء، وتتحوّل أنشطة التعدين في العالم بسرعة فائقة ضربةً مدمّرة للاستقرار السكاني، وكذلك القول في أنشطة التصديع المائي واستخراج النفط من رمال القار (النفط الرملي).
صارت الزيادة المتصاعدة في الحراك البشري الناتج من النبذ والترحيل غير الإكراهيَّين سمةً بارزة من سمات القرن الحادي والعشرين و"شبحًا" يجول في العالم.
عامل مشترك بين الماضي والحاضر
ليس المهاجرون سواءً في أسباب تحركاتهم؛ فبعضهم تتيح له الحركة فرصًا ومنافِع إثر نبذٍ وترحيلٍ مؤقتين فحسب، في حين تكون لآخرين اضطراريةً، ويكون نبذُهم أكثرَ ديمومة. يقع اليوم معظم الناس في نقطة ما على طيف هذه الهجرة، وبين قطبي "المشقة" و"التحجيم" يشترك الجميع في الاقتناع بأن حركتهم هذه لا بد أن تُنتِج درجة معينة من "النبذ" ولو أدت إلى زيادة نسبية في الأموال أو النفوذ أو الملذات، إذ إن الهجرة لا بد أن يصاحبها زوال ملكية الإنسان في بلده الأصلي وفقدانه إمكانية الوصول إليها، وزوال الحق في التصويت، والحصول على إعانات الرعاية الاجتماعية، أو حتى العمل في بلده، وغيرها، إضافةً إلى أن الهجرة بقصد تحصيل فوائد ومنافع تُعتبَر مجازفة محضة، ويصدُق عليها قول زيغمونت باومان إن "السياحة والتشرد وجهان لعملة واحدة"، فبالنسبة إلى "السائح"، والأكاديمي المتنقل، ورجل الأعمال، والباحث عن الاستجمام، والمتشرد، والعمالة المهاجرة، واللاجئين، هم جميعًا واقعون تحت أنماط ودرجات مختلفة من "النبذ"، فرجل الأعمال يجد نفسه مدفوعًا لاإراديًّا إلى السفر في العالم في "مساعٍ وراء الربح" لا تسمح للمستهلكين بالراحة من عناء السعي وراء سلع ورغبات جديدة، أما السائح، وفق باومان، فيعاني هذا "الإكراه الاجتماعي"، هذه الـ "يجب"، هذا الضغط المبطن باستحالة العيش بطريقة أخرى، والمهاجر يشعر بشعور السائح بصورة أشد وضوحًا.
يأخذ المهاجرون قرار الانتقال، لكنهم لا يقررون الظروف الاجتماعية لحركتهم وإلى أيّ حد سيجري نبذهم، بناءً عليه، فإن الهجرة ليست حرة تمامًا وليست أيضًا اضطرارية. ووفق ما كتب باومان، يتبادل السائح والمتشرد الأدوار، فـ "سياسات التأمين على حياة السياح لن تحميهم من الانزلاق في منحدر التشرد [...] ومعظم الوظائف مؤقتة ومرحلية، والأسهم يمكن أن تنخفض أو ترتفع، إضافةً إلى أن المهارات تتقادم".
هذا الكتاب تاريخ فلسفي للفاعل السياسي اليوم، أي المهاجر.
مشكلتان
هناك مشكلتان مركزيتان علينا التغلب عليهما من أجل تطوير نظرية كوننا جميعًا مهاجرين:
أولاهما فهم المهاجر بمنظور "الركود" Stasis، أي تصوّرُه شخصيةً ثانوية في العضوية الاجتماعية، فلقب "المهاجر النازح" يطلق عليه في وطنه، ولقب "المهاجر الوافد" يطلق عليه في مكان الهجرة، وفي كلتا الحالتين يفتقر المهاجر إلى عضويةٍ ومكانٍ ثابتَين، ويرتبط تعريفه بصيرورته وحركته، أو بالأحرى "تشرده". يقدِّم كاتب شخصية المهاجر إطارًا نظريًّا للمهاجر استهلّه بالحركة عوضًا عن الركود السالف الذكر. إلا أن البدء في تصدير الحركة لا يعني أنه ينبغي للمرء الاحتفاءُ بها من دون تمحيص، إذ إنها ليست دائمًا أمرًا جيدًا، وليست دائمًا بالنمط نفسه. والكتاب الذي بين أيدينا تاريخ فلسفي وحركي للفاعل الأبرز في وقتنا، وهو المهاجر، ويسعى إلى فهم الظروف المادية والاجتماعية والتاريخية لشخصية المهاجر في أيامنا هذه، وهو ليس مجرد نظرية للمهاجر، بل للحركات الاجتماعية، التي من خلالها تحدث الهجرة أيضًا. لا مكان للركود في فلسفة منصبّة على الحركة، فإذا أردنا فهم شخصية المهاجر "المتحرك"، فإن علينا أيضًا فهم المجتمع نفسه وفقًا لحركته.
وثانيتهما، فهْمُ المهاجر من منظور الدول، التي غالبًا تشرف على كتابة التاريخ، ومعظم الدول - إن لم نقل كلها - تصوّر المهاجر شخصًا بلا تاريخ وبلا قوة اجتماعية. يقول فريدريك هيغل: "في التاريخ العالمي نهتم فقط بأولئك الذين شكّلوا الدول، لأن القيمة والأهمية اللتين يحظى بهما البشر تأتيان من خلال الدولة وحدها"؛ لذلك كان هناك ميل دائمًا إلى تصنيف تاريخ للمهاجرين ضمن تاريخ الدولة أو استئصال الأول لحساب الأخير.
لقد أنشأ أشد المهاجرين حرمانًا وتجريدًا أكبر التنظيمات الاجتماعية غير الحكومية، ولذلك يقدِّم هذا الكتاب تاريخًا مغايرًا، يعيد عبره المكانةَ لتنظيمات اجتماعية مهمة همَّشتها الدول لمهاجرين أنشؤوا أشكالًا مختلفة جدًّا من التنظيم الاجتماعي تمكن رؤيتها بوضوح في "التاريخ الثانوي" لغارات المهاجرين الأكثر تهميشًا وثوراتهم وتمرداتهم ومقاوماتهم. إنه تاريخ تصعب كتابته، ويُعدّ تحديًا؛ فكثير من هذه التنظيمات الاجتماعية لم تترك وثائق مكتوبة، أو تركت وثائق تكفلت السلطات بتدميرها بصورة منهجية. ليس أمرًا طبيعيًّا أنّ تاريخ المهاجرين قد صار لاتاريخيًّا، كما يزعم هيغل، بل عنف الدول هو ما صيَّره كذلك. ونستخلص من تطوير نظرية سياسية للمهاجر ثلاث نتائج مهمة: النتيجة الأولى، سماحها بتصور تاريخي لظروف ظهور أشكال النبذ الاجتماعي الحركي للمهاجِر في القرن الحادي والعشرين، والتي لم تأتِ من فراغ وكانت أنواعًا ودرجاتٍ: الإقليمي والسياسي والقانوني والاقتصادي. وبعد هيمنة أشكال جديدة من التنظيم الاجتماعي خلال التاريخ، وانتصار الدولة على القرية، والسوق على الإقطاع، بدأنا نرى طفرة أساليب جديدة لنبذ وترحيل المهاجر، الذي نجده اليوم عند تقاطع الأشكال الأربعة الكبرى للنبذ الاجتماعي التاريخي، التي يقدِّم الكتاب تحليلًا لها خلال الفترة التاريخية التي كانت لهم فيها الغلبة، وتعريفًا مفاهيميًّا قائمًا على حركة المهاجرين المرتبطة بعمليات النبذ هذه، لا يتطرق فيه إلى تأريخ حرمانهم النسبي برغم أهميته، ويركز عوضًا عن ذلك على الشخصيات الأكثر تهميشًا في تاريخ الهجرة (البدو، والأعاجم، والمتشردون، والطبقة الكادحة)، أولًا لأن تاريخهم هُمِّش إلى حد بعيد، وثانيًا لأن تاريخهم يوضح كيفية ظهور شكل آخر من أشكال النبذ الاجتماعي، وثالثًا لأن تاريخهم شبيه إلى حد بعيد بأحوال معظم من نسميهم "مهاجرين".
أما النتيجة الثانية فتتمثل في أن تطوير نظرية للمهاجر يتيح لنا تحليل الهجرة المعاصرة؛ فتاريخ الهجرة ليس خطيًّا، وليس تقدميًّا "لعصور" مختلفة، بل هو تاريخ التعايش بين القوى الاجتماعية التي تعرّضت للنبذ، فإلى اليوم لا تزال أساليب النبذ، الإقليمي والسياسي والقانوني والاقتصادي، هي نفسها التي ظهرت وتكررت خلال التاريخ، فسلب الأراضي على سبيل المثال، لم يكن فقط ضد البدو في العصر الحديث، بل انتشر في التاريخ حتى الوقت الحاضر، وكرَّس كيانات وشعوبًا بدوية، لكنه أيضًا ابتكَر هجرة "ذاتية" غدت سمةَ جماعة من النازحين (البدو الرُّحَّل)، الذين وإن اتّصفوا بالنبذ الاجتماعي أيضًا فإنهم ليسوا بالضرورة البدو أنفسهم الذين ظهروا في التاريخ، فالمطرودون من أراضيهم في العصور القديمة والوسطى خلال الحروب والاختطاف شُرِّدوا بإزالة القوانين التي كانت تربطهم بالأرض، أما في العصر الحديث فشُرِّدوا بمراكمة الرأسمالية الممتلكات الخاصة وتجريد أصحابها منها، فاليوم يُطرد عمال المزارع المهاجرون من أراضيهم باتِّباع أساليب الزراعة المكثفة المتطورة، وتنبذ الحروب السكان الأصليين إلى الجبال والغابات و"القفار"، ويُطرد سكان الجُزُر منها بحجة ارتفاع المدّ والجَزْر الناتجَين من التغير المناخي، وليس مجافيًا للحقيقة كثيرًا وصف الصحافة الشعبية كل هؤلاء بـ "البدو"، ولو أنهم ليسوا كالبدو الأوائل، لكنهم اشتركوا معهم في شكل معيّن من النبذ الإقليمي.
صارت الزيادة المتصاعدة في الحراك البشري الناتج من النبذ والترحيل غير الإكراهيَّين سمةً بارزة من سمات القرن الحادي والعشرين و"شبحًا" يجول في العالم
وتتمثل النتيجة الثالثة في إبراز نظرية المهاجر قدرةَ حركتِه على تكوين بديل خاص من النبذ الاجتماعي في أثناء العصيان والثورة والتمرد والمقاومة. وكما يُستخدَم تحليل الأساليب التاريخية لنبذ المهاجر في فهم الهجرة المعاصرة، تُوظَّف أساليب تنظيمات المهاجرين الاجتماعية التاريخية في تشخيص قدراتهم في العصر الراهن على طرح بدائل من المنطق الاجتماعي المعاصر في النبذ، الذي لا يزال يهيمن على عالمنا.
وعوْدًا على بدء، سيكون القرن الحادي والعشرون قرنَ المهاجر، ليس بسبب العدد القياسي للمهاجرين اليوم فحسب، بل أيضًا لأن هذا القرن شهد عودة ظهور جميع الأشكال السابقة للنبذ الاجتماعي والمقاومة المتنقلة بنشاط كبير، على نحوٍ يسمح لنا بأن نكشف غوامض الماضي، المتمثلة في أن المهاجر كان دومًا قوة الحفز الحقيقية للتاريخ الاجتماعي.
يعرِّف القسم الأول من الكتاب الحركة الاجتماعية ويحدد بنيتَها المنطقية. ويوضح القسم الثاني أن المهاجر لا يميَّز من خلال حركته فحسب، بل من خلال ظروف تاريخية معيّنة وعدة أساليب من النبذ الاجتماعي. ويعرض القسم الثالث كيف قدَّمت شخصيات مهاجرة عدة بديلًا من المنطق السالف الذكر. أما القسم الرابع والأخير، فيتحدث عن كيفية مساعدة مفاهيم القسمين الثاني والثالث في فهمٍ أفضل للديناميكيات المعقدة لظاهرة الهجرة المعاصرة في الحالة المكسيكية - الأميركية.