هناك بعض الكتب الني نقرؤها فتثير في داخلنا صخبًا جميلًا نستشعره مع كلّ عبارة وحرف فيها، وهذا ما حدث معي أثناء قراءتي لكتاب "صخب المؤنّث: نحو نسوية إبداعية" للباحثة التونسية أم الزين بنشيخة المسكيني، وهو كتاب يأتي ليُعيد لكلمة "الصخب" معناها الإيجابي، وليبعدها عن نطاق كلّ ضجيج مزعج وسلبي.
تُعرّف الباحثة "صخب المؤنّث" في كتابها بأنّه: "صوت تمّ منعه من الوصول إلى الخطاب؛ فطفق يبحث لنفسه عن أمكنة مغايرة للعبور وجدت في الفنون بأشكالها أفقها الخاصّ"، فالصخب الذي تثيره في كتابها هو صخب قادم من تسليطها الضوء على الخطاب المؤنّث، وعلى كيفيات ومراحل تشكّله عبر الأزمنة المختلفة، ليكون بمثابة خطاب مضاد للخطاب الذكوري الذي احتكر الهيمنة على الفضاءات العامة في العالم كلّه لعصور عديدة.
تُقدّم المؤلفة في كتابها تصوّرًا عامًا حول "صخب المؤنث" بوصفه خطابًا نسويًا يُناضل من أجل استعادة الفضاءات العمومية من الهيمنة الذكورية
وترى المؤلفة أن "صخب المؤنّث" مسكونٌ: "بكلّ النظريات والنضالات النسوية منذ قرنين من الزمن. نظريات تقاطعت على جسد المرأة وتحت أقلامها وفي ثنايا صوتها ودمدماتها المكتومة أحيانًا. فتارةً نطالب بالمساواة مع الرجل باعتبار "المرأة رجلًا كالآخرين" (سيمون دي بوفوار) مفترضين بذلك أنّ الرجل قد وقع إنصافه ومساواته مع الرجل الآخر في طبقة اجتماعية أخرى أو في بلاد أخرى. وطورًا يقع الدفاع عن الاختلاف الجنسي أو ثنائية الكينونة حالمين بأن تكون "المرأة هي مستقبل الرجل" (لوس إيريغاري). أخيرًا ذهبت الأبحاث النسوية إلى اعتبار المرأة والرجل جندرًا أو نوعًا اجتماعيًا يبنيه المجتمع بصرف النظر عن الجنس البيولوجي (جوديث بتلر)".
تستعرض بنشيخة المسكيني في كتابها مختلف الأطروحات والنظريات النسوية التي جادت بها قرائح وأذهان عدة فيلسوفات ومفكّرات غربيات، وتضعها على طاولة البحث والنقد والتفنيد، وتنطلق في عرضها ذاك من فرضية عامة تعتقد فيها بأنّ تنظيرات جميع هؤلاء النسويات هي تنظيرات ساعدت وما زالت تساعد على استعادة القضاء العمومي من مركزية الذكور وهيمنتهم عليه، وهي المركزية التي: "تجعل من الذكر مرجعية كونية في العلم والعقل والسياسية"، وتقصي حسب كلامها النساء عن تلك المجالات جميعها، وتُبعدهنّ عن مجال كتابة التاريخ أي مجال صناعة الأنظمة الرمزية.
وتعتبر المؤلفة أن أخطر أشكال الإقصاء التي واجهتها وما زالت تواجهها النساء، هو إقصائهنّ على نحو ممنهج من مشروع إنشاء الأنشطة الرمزية والفلسفات والعلم والقانون، أي إقصائهنّ من مجال صناعة النظرية. وبالتالي، فإنّ الكتابات والتنظيرات النسوية من النساء حول النساء وأوضاعهنّ يُساعد في إعادة: "كتابة تاريخ النساء وترسيخ هذا التاريخ بوصفه تاريخًا مقاومًا لهيمنة نموذج كتابة التاريخ من وجهة نظر ذكورية؛ ذلك هو أحد شروط تهيئة حقل نظري يسمح بأن تساهم النساء في إنتاج النظريات والتشريع للحقيقة".
تجعل الباحثة من القسم الأوّل من كتابها مجالًا نظريًا لاستعراض ونقد مختلف الأطروحات والنظريات التي تضمنها خطاب النسوية عبر العصور، في حين تُفرِد القسم الثاني لإيراد أمثلة تطبيقية من تجارب إبداعية تشكيلية ترسم فيها نساء مبدعات (من مختلف الجنسيات العربية)، ويعبّرنّ من خلالها عن ذواتهنّ وعن رفضهنّ لواقع الهيمنة المركبة التي يوجدنَ فيه (هيمنة أبوية ذكورية وهيمنة رأسمالية أو أوروبية غربية وهيمنة استبدادية واستعمارية).
وتؤكّد صاحبة "الفن في زمن الإرهاب" من خلال عرضها وتعقيبها على هذه النماذج لأولئك الفنانات التشكيليات العربيات المبدعات بأنّ الفنون هي أيضًا حقول مجالية يجب على المرأة استعادتها من الهيمنة الذكورية، واتخاذ مساحاتها المتعددة: "لاختراع المرأة كنموذج رمزي وإيجابي وكاقتدار على تشكيل قيم ومنظومات جمالية إيتيقية مغايرة".
استطاعت أم الزين بنشيخة المسكيني من خلال الشقين النظري والتطبيقي في كتابها أن تُقدّم تصوّرًا عامًا حول "صخب المؤّنث"، وهو الخطاب النسوي الذي يُناضل من أجل استعادة الفضاءات العمومية من الهيمنة الذكورية، والذي تتعدّد أشكال حضوره في الحقول المجالية المختلفة (خطاب تنظيري كتابي أو خطاب فني جمالي)، وهو خطاب يَجتهد بكافة أشكاله، وفق المؤلفة، في العمل على تطوير نسوية نقدية إيجابية، تنادي من أجل التحرّر من كافة أشكال الهيمنة على البشر، ومنها هيمنة السلطة ببناها الدينية التقليدية، وهيمنة الاستعمار القائم على العنف المعولم، وعلى سياسات التفاوت واللاعدالة بين البشر وبين الشعوب معًا.
