صدر كتاب "صُنع العدو" أو "كيف تقتل بضمير مرتاح" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بطبعته الأولى في أيار/مايو عام 2015 للمؤلف بيار كونيسا وبترجمة نبيل عجان.
يؤكد كتاب "صُنع العدو" على حقيقة أنّ الأنظمة الديمقراطية ليست سلمية بطبيعتها، ويذكر مثالًا على ذلك النموذج الأمريكي وتوسعه المستمر بحجة تغطية مصالحه، والسياسة الفرنسية في أفريقيا
بيار كونيسا باحث وأكاديمي ودبلوماسي فرنسي، وخبير في الشؤون الدولية والاستراتيجية. شغل منصب مساعد مدير لجنة الشؤون الاستراتيجية في وزارة الدفاع الفرنسية، وهو حاليًا أستاذ في معهد العلوم السياسية. صدر له كتابا "دليل الجنة" و"آليات الفوضى"، وهذا الكتاب "صنع العدو" الذي يعرض فيه بشكل مُبسّط ومُفصّل ومع كثير من الأمثلة تحليلًا للعدو من حيث ماهيته وآليات خلقه وإمكانيات تفكيكه. كما يعرض فيه تصنيفًا لأنواع العدو، وطرائق تحديده، والأساليب المستخدمة لتحقيق هذا الغرض.
يُقسّم الكتاب في ثلاثة أقسام رئيسة، يحمل قسمه الأول عنوان "ما العدو؟"، فيما يحمل القسم الثاني عنوان "وجوه العدو: محاولة تصنيف"، أمّا القسم الأخير وهو الأكثر اختصارًا، فيحمل عنوان "تفكيك العدو". وفي هذه الأقسام الثلاثة يحلّل الكتاب علاقة العداوة الناشئة بين الأفراد، وكيفية بناء صورة العدو في الأذهان كمقدمة للحروب والنزاعات، على اعتبار أنّ "العجرفة الحربية" التي تدفع الناس للاقتتال لا بد لها من مقدمات تُبنى عليها وتُحوّل فعل القتل والعنف إلى سلوك مشروع ومقبول، بل وواجب يتحتم عليهم الالتزام به. ففي الحرب "يمكن معاقبة من يرفض قتل العدو بالموت، لذا يتعيّن علينا القيام بذلك عن طيب خاطر والاقتناع بما نفعل".
اقرأ/ي أيضًا: "أن ترى كدولة" لجيمس سكوت.. مجزرة التجانس وعقدته
يبدأ المؤلف القسم الأول من كتابه بسؤال: "هل العدو ضرورة؟"، وللإجابة عن سؤاله يسوق أمثلة للحروب الأهلية التي اشتعلت في دول عدة بعد زوال الاتحاد السوفياتي معللًا ذلك بأن مسوّغ الحروب التي كانت تتغذى بالعداءات الدولية ثنائية القطب زال بزواله، الأمر الذي جعل هذه النزاعات تتحوّل إلى الداخل في ظل القطبية الأحادية. وفي هذا السياق يتطرّق إلى مسألة فلسفية ألا وهي: هل الإنسان عنيف بطبعه؟ وهل العدو بالنسبة إليه معطىً طبيعي، أم أنّ العداوة وضع ظرفي للحروب الناشئة بين الدول بصيغتها الحديثة؟ ثمّ يشير إلى حاجة رجال السياسة المستمرة إلى العدو حيث يخدم وجوده إعادة بناء وحدة الجماعة أو الهوية القومية من خلال التضحية بالكيان المعادي، ويستشهد على ذلك بقول دوركهايم: "حين يعاني المجتمع يشعر بالحاجة لأن يجد أحدًا يمكنه أن يعزو إليه ألمه، ويستطيع أن ينتقم لخيبات أمله".
يوضّح الكتاب في هذا الجزء منه كيف تُمجّد المجتمعات الحروب، وكيف يقدسونها بشعارات ترتبط بالإله حليف المحاربين وناصرهم مثل: (ثقتنا بالله) و(الله معنا) و(الله أكبر). وكيف أنّ التعبئة للنزاع إنّما تكون بالقناعات والمعتقدات لا بالسياسات والدول، حتى أنّ جورج بوش الابن لجأ إلى خطاب ديني مشابه في حروبه التي خاضها حين كان يقول: "كانت الحرية والترويع والعدالة والوحشية دائمًا في حالة حرب، ونحن نعلم أنّه بالنسبة إلى الله الأمر ليس سيان".
في إطار تحديد العدو، ومن هي الجهات التي تتولى هذه المهمة، يستعرض الكاتب صورة للأنظمة التسلطية في الشرق، والتي تنحصر القضايا الاستراتيجية فيها بيد الزعيم الواحد أو الحزب الواحد، فيما يُهمَّش المثقفون الضليعون في تلك المسائل ويُقصون عن المشاركة الفاعلة، مما يضطرهم إلى الهجرة، الأمر الذي ينتج عنه فقر في الإنتاج العلمي الجدي في هذه المجتمعات. ولأجل ذلك تنفرد مؤسسات التفكير الاستراتيجي الغربية بتقديم التحليلات حول المسائل الدبلوماسية والأمنية، والتي تلعب دورًا مهمًا في إنتاج العدو. إلى جانب ذلك، يُبرز المؤلف دور أجهزة الاستخبارات في تحديد العدو مع ما تمنحه هذه الأجهزة للديمقراطيات الغربية من ميزة الاستشهاد بها كمصادر للمعرفة، دون الحاجة لتقديم التفسيرات أو التبريرات لأي جهة محلية كانت أم عالمية. لكنّه يستدرك بأنّ بناء العدو وتحديده لا يقتصر على هاتين الفئتين فهذه المسؤولية يشارك في حملها أيضًا النخب السياسية والثقافية في مختلف المجتمعات.
ينتقل المؤلف في القسم الثاني من كتابه إلى تصنيف العدو ضمن سبعة أنواع، بدأها بأكثرها شيوعًا وهو "العدو القريب" المتمثل بالجار الحدودي، والذي تنشأ نتيجة الخلاف معه حروب حدودية لا يهدف أي طرف فيها إلى إزالة الآخر، بل إلى كسب المزيد من الأراضي مهما كبرت مساحتها أو قلت. ويستشهد الكاتب على ذلك بمقولة ميشال فوشيه: "ليس هناك مشكلة حدود، هنالك مشكلات علاقات فحسب بين دول وشعوب حول الحدود". أمّا النوع الثاني من الأعداء والذي سمّاه المؤلف بـ "العدو الكوكبي" فيشمل الدول الراغبة بالسيطرة على الكوكب، الأمر الذي دعم ظهور الإمبريالية الغربية التي تقوم على قاعدة أيديولوجية مفادها أنّ قومية معينة "مُقدّر لها السيطرة العالمية". فيما يظهر النوع الثالث، وهو "العدو الحميم"، في الحروب الأهلية التي هي برأيه سلسلة متصلة من العنف لا تتوقف بانتهاء حالة النزاع، وإنّما قد تستمر إلى ما بعد ذلك من خلال الممارسات القمعية من جانب الفئة المنتصرة.
يوضّح كتاب "صُنع العدو" كيف تُمجّد المجتمعات الحروب، وكيف يقدسونها بشعارات ترتبط بالإله حليف المحاربين وناصرهم
يختلف النوع الرابع عن سابقيه بكونه غير محدد، فهو "العدو الخفي" المتمثل بنظرية المؤامرة التي يمكن تحميلها مسؤولية مشكلات الأفراد والدول بصورة مباشرة دون الحاجة إلى تقديم الكثير من الإيضاحات أو التفسيرات المنطقية. ويمكن تلخيص وصف الحال مع نظرية المؤامرة بقول المؤلف إنّها "أقل من حرب، لكنّها تولّد تطهرًا محكومًا بعقدة الاضطهاد". أمّا العدو الخامس ضمن هذا التصنيف فهو "العدو المطلق" المتسبب بالحروب الكونية، أو الحروب الأيديولوجية التي تأخذ شكل النزاعات الدينية المشتعلة في العديد من دول العالم اليوم. ويتحدّث الكاتب هنا عن التشابه الظاهر بين حركات التطرف الديني، كما لا يفوته أن يشير إلى التناقضات السياسية التي تقع فيها البلدان الديمقراطية حين تمنح رجال الدين المتطرفين حق اللجوء إليها تحت بند الحرية الدينية. يبقى من أنواع العدو التي ذكرها المؤلف في كتابه "العدو المُتصوّر"، وهو العدو غير المرئي وغير المحدّد على غرار "الإرهاب" الذي تجهد الديمقراطيات الكبرى اليوم بمحاربته في كل مكان، وأخيرًا "العدو الإعلامي" الذي تنتجه وسائل الإعلام ومثقفوها بشدّ انتباه المتابعين إلى حدث ما دون غيره، وفقًا لجدولة زمنية محددة للحوادث العالمية.
اقرأ/ي أيضًا: ميشيل فوكو.. المنظور الفلسفي للسلطة
يختم المؤلف هذا الجزء من الكتاب بسؤاله: "ما هو المستقبل المُقدّر لكل عدو حُدّدت هويته؟"، وفي معرض إجابته عن هذا السؤال يعقد مقارنة بين أشكال الحروب والأعداء الأطراف فيها، ويُرجّح في نهاية حديثه أن تستمر الآليات المذكورة سابقًا في إنتاج العدو لكونه يخدم الحياة الدولية بصورة عامة.
في قسم "تفكيك العدو" يعاود المؤلف تكرار سؤاله الأول حول العدو كضرورة، لينطلق منه إلى سؤال آخر هو: "كيف نستطيع تفكيك العدو على الصعيدين الوطني والدولي؟ وما نماذج النزاعات التي يمكن تفكيك نوابضها؟". يقول الكاتب: "إذا كان العدو بنية فمن الممكن تفكيكها"، ثمّ يعرض بصورة مختصرة أساليب تفكيك العداوات من خلال المصالحة والعفو وتغيير الخطاب الموجه وتسخير وسائل الإعلام لإعادة إخراج البراهين التقليدية المتعلقة بصنع العدو، وأخيرًا إنشاء العدالة الدولية القادرة على معاقبة مرتكبي الجرائم.
في النهاية يتوقّع الكاتب توسّع قطاع إنتاج العدو مستقبلًا، ويؤكد على حقيقة أنّ الأنظمة الديمقراطية ليست سلمية بطبيعتها، ويذكر مثالًا على ذلك النموذج الأميركي وتوسعه المستمر بحجة تغطية مصالحه، والسياسة الفرنسية في أفريقيا. إلّا أنّه في الوقت ذاته يشير إلى عدم حتمية الحرب، ويسوق عددًا من الأمثلة لسياسيين يعملون بشكل حقيقي على تفكيك العداوات، ويبني على ذلك دعوته إلى التمسّك بهذه النماذج لتقليص أسباب النزاع ووقف الدعوات اللاواعية إلى الحرب.
أخيرًا، تبرز أهمية هذا الكتاب في كونه يُقدّم انتقادًا صريحًا لآليات تشريع القتل وتبريراته، سواءً تلك التي تقدّمها الحركات الدينية الراديكالية أو التي تقدّمها الديمقراطيات الحديثة في سياق تخدير ضمائر الأفراد في مجتمعاتنا، كما أنّه يمثّل دعوة لهذه المجتمعات لإصلاح ذاتها وتدارك الخطر المحيق بها والاعتبار بالحروب السابقة والإبادات العرقية التي تعرض لها سكّان هذا الكوكب، وكذلك يخدم في معرض التحليل الذي يقدمه في استباق أسباب النزاعات والعمل على الحدّ منها قبل اشتعالها.
اقرأ/ي أيضًا:
ما وراء خطوط الشعبوية.. هل هو عصر إذابة الدولة القومية الحديثة؟