ربما يصحّ القول إن الدكتاتور شخصية كاريكاتورية، إذ قلّما تخلو القراءة عن الدكتاتوريات من طرفة مضحكة في مواقف وسلوكيات المستبد وحاشيته، فمن العقيد الشيشكلي الذي يطلق سراح المعتقلين السياسيين بعد يومين فقط من اعتقالهم كل مرة، لا لرقة قلبه، بل لأنه بخيل جدًا لا يجود بتكاليف إطعام السجناء رغم أنّها ليست من جيبه الخاص! إلى القذافي الذي كان ينصب خيمته أمام المحافل الدولية والإقليمية، فضلًا عن الكوميديا السوداء التي كان يقدّمها في خطاباته وقراراته الغريبة، ولأن العالم "يخشى" كثيرًا على العرب دون "حاكم مهرج" فقد دفعوا بالسيسي ليستكمل دور القذافي الكوميدي على الشاشات. ولك أن تتخيل علي عبد الله صالح وهو يركض خلف عبد الحليم خدام في المطارات محاولًا استعادة "سبحة" بآلاف الدولارات، كان خدّام قد اختطفها من بين يدي صالح في عدة مناسبات.
في كتاب "كيف تعمل الدكتاتوريات؟"، ثمة 382 صفحة مدججة بالإحصاءات والبيانات الدقيقة عن 280 نظام استبدادي وقع في العالم منذ عام 1945 - 2010
على أي حال، لعل مثل هذه الطرائف وغيرها كانت أحد أسباب تحمّل جيش من الباحثين قسوة العمل على مشروع تحليل الأنظمة الدكتاتورية برئاسة باربرا غيديس، "الذي امتد العمل عليه أكثر من عمر العديد من الدكتاتوريات" كما نقرأ في افتتاحية كتاب "كيف تعمل الدكتاتوريات؟ السلطة وترسيخها وانهيارها" الصادر مؤخرًا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بترجمة ممتعة واحترافية للباحث والمترجم المصري عبد الرحمن عياش. ويقع الكتاب في 382 صفحة مدججة بالإحصاءات والبيانات الدقيقة عن 280 نظام استبدادي وقع في العالم منذ عام 1945-2010. كما صدر الكتاب باللغة الإنجليزية عام 2018 عن مطبعة جامعة كامبردج.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "أسئلة الحداثة في الفكر العربي".. من الهوية إلى المعنى
ورغم أنَّ غيديس قدّمت عام 2003 كتابها: "النماذج المعرفية وقلاع الرمال: بناء النظرية وتصميم الأبحاث في السياسات المقارنة (Paradigms and Sand Castles: Theory Building and Research Design in Comparative Politics) الكتاب الذي أعاد تشكيل تفكير طلاب وأساتذة علم السياسة المقارنة، فحولتهم من قراء ومستهلكين لنصوص هذا الحقل إلى منتجي معرفة فيه، إلّا أنَّه لم يترجم للعربية بعد، ليكون كتابها "كيف تعمل الدكتاتوريات؟" هو الكتاب الأول الذي يترجم إلى العربية لهذه العالمة المتميّزة، وهذا سبب إضافي للاحتفاء بهذا الكتاب المميز.
يركز الكتاب على الكيفية التي يرسخ فيها الانقلابيون حكمهم، ويبسطون سلطانهم على رفاقهم ومؤسسات الدولة وعموم الشعب، وهو أحد نتائج مشروع ضخم يستند إلى تحليل البيانات والدراسات المقارنة، تعود بدايته إلى أواخر التسعينات عندما نشرت عالمة السياسة الأمريكية باربرا غيديس مقالها الشهير في حول التحول الديمقراطي (1999): "ماذا نعرف عن الدمقرطة بعد عشرين عامًا؟" وقدمت تميزًا دقيقًا في حينه حول أنماط الأنظمة التسلطية: الأنظمة العسكرية، أنظمة الحزب الواحد، الأنظمة الشخصانية. ومدى تأثير مجموعة من العوامل كالانكماش الاقتصادي في انهيار كل نظام بموجب بنية النظام ذاته. أما العمل الذي بين يدينا فهو نتيجة لعمل فريق تشكّل حوالي عام 2009 عندما نال العمل منحة حكومية، ليتوسّع فريق العمل، ويصدر عددًا من الأبحاث والبيانات الكميّة، وجاء هذا الكتاب بمشاركة: جوزيف رايت (أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية بنسلفانيا) وإيريكا فرانتز (أستاذة مشاركة في العلوم السياسية بجامعة ولاية ميشيغان، مختصة بالآثار الأمنية والسياسية للحكم السلطوي).
اهتم المشروع بدراسة الأنظمة الدكتاتورية حول العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ساعيًا للوصول إلى أسباب استقرار هذه الأنظمة والشروط التي تؤدي لاستقرارها، والتحوّلات التي تودي بها، والآثار المختلفة التي تنتج عن انهيارها، وأوضح الكتاب أن 45 % من الدكتاتوريات في العالم جاءت إلى السلطة عبر الانقلاب العسكري، لذا فإن الباحث يمكنه إجراء قراءة مقارنة بين كتابنا هذا، وبين مشروع الباحث الأمريكي ناونيهال سينج "الاستيلاء على السلطة: المنطق الاستراتيجي للانقلابات العسكرية" (Seizing Power: The Strategic Logic of Military Coups) الذي درس فيه سينج 471 محاولة انقلابية وقعت في العالم من 1950 إلى 2000 وقدّم فيه نظرية جديدة لديناميكيات الانقلاب ونتائجه. فبينما يبيّن لنا سينج "كيف يستولي الضباط والانقلابيون على السلطة" تشرح لنا غيديس وفريقها كيف يرسّخ المستبدون السلطويون عمومًا نظام حكمهم، وكيف يسقطون وتحت أي ظروف.
إنَّ الاتجاه إلى ترجمة الدراسات حول "آليات عمل" الدكتاتورية والانقلابات العسكرية والجيوش والاستخبارات بشكل تفصيلي هو مرحلة جديدة في الثقافة العربية، وخطوة إلى الإمام بعيدًا عن القراءات العمومية المغرقة في النظرية، والاكتفاء بالقراءات الثقافوية والتاريخية، آملين أن تكون مقدّمة لأعمال عربية تحلّل واقعنا العربي بأدوات ومناهج مشابهة.
كيف ترسخ الدكتاتوريات؟
يقدم الكتاب تحليلًا وافيًا ودقيقًا لآليات عمل النظام الدكتاتوري، من لحظة التخطيط للاستيلاء على السلطة، وصولًا إلى لحظات الانهيار، استنادًا إلى البيانات الهائلة المليئة بالأحداث والوقائع والتي عكست تنوّع وتعقيد الأنظمة الدكتاتورية في بنيتها وآليات عملها، ومما يميّز الكتاب أنّه يجمع بين تحليل الدوافع الأفراد المؤثرين والجماعات المحلية، ودور العامل الاقتصادي، والعامل الخارجي، في قراءة تحاول الابتعاد عن تفسير التحوّلات بعامل واحد، كما حاول تقديم توصيات في فصله الأخير توضح المطلوب من المجتمع الدولي ومؤسساته ومن المعارضات السياسية للعمل على "الحد" من وجود الأنظمة المتسلطة في العالم.
بما أنَّ أغلب عمليات الهيمنة على السلطة يقودها ضباط، فعلى الشخص الذي وقع اختيار القيادة عليه أثناء التخطيط للانقلاب أن يحسم الصراعات مع رفاقه
ولعل تقديم مراجعة وافية لهذا الكتاب يحتاج مساحة كبيرة لا تحتملها مقالة، فسأكتفي بذكر بعض الاستنتاجات اللافتة التي قدّمها الكتاب:
1- بما أنَّ أغلب عمليات الهيمنة على السلطة يقودها ضباط في المؤسسة العسكرية -يسميها المؤلفون "جماعات السيطرة"- فعلى الشخص الذي وقع اختيار القيادة عليه أثناء التخطيط للانقلاب أن يحسم الصراعات مع رفاقه داخل المجموعة الانقلابية، وإقصاء كل المعارضين للحركة بعد الهيمنة على السلطة -سواء من المدنيين أو العسكريين- عبر السجن، أو النفي، أو القتل. وعليه أن يكسب ثقة أطراف تضمن له السيطرة على مؤسسات الدولة، فإذا كانوا من الضباط فيتم ذلك من خلال ضمان مصالحهم والحفاظ عليها، وهي غالبًا مصالح متعلقة بالثروة وأوضاعهم في القوات المسلحة، فعلى الدكتاتور الجديد الاهتمام بالرتب العسكرية لمواليه. فالباحثون في هذا الكتاب ينفون تمامًا فكرة أن "الضباط قد يقومون بانقلابات من أجل الآخرين" سواء من أجل طبقات برجوازية أو جماعات محلية أو فاعل دولي وإقليمي، بل يستنتج الباحثون أن الضباط يهيمنون على السلطة نتيجة مظالم خاصة بالمؤسسة العسكرية وضباطها، أو من أجل مصالحهم الخاصة و"ملذاتهم الشخصية".
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "القافلة".. عبد الله عزام وسيرة الجهاد العالمي
2- تلجأ الدكتاتورية إلى إنشاء أحزاب سياسية لتجاوز حالة الانقسام داخل "جماعات السيطرة المسلحة". فتأسيس الأحزاب استراتيجية فعالة للحفاظ على الدكتاتورية وحمايتها من الانهيار، إذ أظهر الإحصاء الكمي أن إنشاء حزب بعد الاستيلاء على السلطة مرتبط بانخفاض معدل محاولات الانقلاب. الأحزاب تحوّل الدكتاتور من طرف في التفاوض، وشخص مساوٍ للآخرين من أقرانه في الجماعة الحاكمة، إلى محكّم بين فصائل دعم منقسمة ومتنافسة، وهو يقلل من اعتماده على كل منهم، ويعزز من حريته في التصرف وسيطرته على الموارد وصياغة السياسة. ولكن ما هو الدور الفعلي الذي يؤديه إنشاء الحزب أثناء الحكم السلطوي حتى يقدّم كل هذا للحاكم المستبد؟
"في الدكتاتوريات التي يوجد فيها أحزاب داعمة، يسند القادة المركزيون مسؤولية جمع المعلومات عن الآراء والأوضاع المحلية وكذلك تنفيذ سياسات النظام إلى أعضاء الحزب الذين يشغلون مناصب كمسؤولين محليين أو موظفي خدمة مدنية أو مدراء وموظفين في شركات تسيطر عليها الدولة، ويتوقع كوادر الحزب شرح السياسات وبناء الدعم لهم ومنع العامة من تجاهل التوجيهات المركزية أو تعطيلها، وفي الوقت نفسه أيضًا، توزيع حوافز إيجابية في مقابل التعاون، ويتوقعون أيضًا من المسؤولين والكوادر إرسال معلومات للسلطات المركزية عن المشاكل المحلية وكيفية عمل السياسات على الأرض وأي علامات على المعارضة".
قدرة الدكتاتورية على التلاعب بالتعددية الحزبية من أهم الأدوات المساعدة على ترسيخ حكمها
هل يذكركم هذا بحزب البعث في سوريا والعراق سابقًا؟ أم بالحزب الوطني في مصر؟ أم بالمؤتمر الشعبي في اليمن؟ وهل تذكركم حالة "التعددية الوهمية" بالجبهة التقدمية في سوريا مثلًا؟ أحزاب على الورق تجتمع مقراتها في بناءٍ واحد، يعلوها الدكتاتور ويباركها! إنَّ نموذج إلغاء الأحزاب على الطريقة الناصرية أو الحزب الواحد على الطريقة الستالينية قد تجاوزه الزمن اليوم، ويوضح الكتاب أنَّ قدرة الدكتاتورية على التلاعب بالتعددية الحزبية، وهو من أهم الأدوات المساعدة على ترسيخ حكمها، وهو ما يمكن رؤيته بوضوح في العراق على سبيل المثال، إذ نجد مئات الأحزاب بدون أي فاعلية حقيقية.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "روح الديمقراطية".. قدر الجغرافيا وسؤال النفط في العالم العربي
3- على مستوى العنف، يوضح الكتاب أنَّ الأنظمة السلطوية القائمة على شرعية العنف والتهديد تستخدم ثلاث طبقات من أجهزة العنف على الأقل لإثبات جدية تهديداتها، فتعمل على تأسيس أجهزة قهر ظاهرة للعيان. يمثل الجيش الطبقة الأولى التي تحمي النظام السلطوي من الغزو الخارجي والتمردات المسلحة والاضطرابات الشعبية. ثم الطبقة الثانية من القوات شبه النظامية، التي تحمي الدكتاتور ونظامه من "الجيش ذاته" واحتمالات الانقلاب العسكري والاعتداءات المسلحة. فيما تأتي الطبقة الثالثة، وهي أجهزة العنف الأهم للدكتاتوريات: أجهزة الأمن والاستخبارات، التي ترجّح كفة النظام في السيطرة على المعلومات، والقدرة على الصمود من خلال الضربات الاستباقية لأي تهديد، فتحميه الاستخبارات من الجيش والشعب والخارج معًا.
اقرأ/ي أيضًا:
4 عناوين دسمة من إصدارات "الشبكة العربية للأبحاث والنشر" لنهاية 2019