يكشف الباحث الأمريكي جون كلسي في كتابه "مسألة الحرب العادلة في الإسلام" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر/ ترجمة رلى ذبيان، 2009)، النقاب عن مصطلحات واسعة وكبرى في تاريخ الإسلام، مثل "الجهاد" و"الحرب" وغيرهما. ويتتبع كرونولوجيًا أساس هذه المفاهيم وسياقاتها الكبرى ومنطلقاتها. وهذه القراءة هي محاولة لتبيان إذا ما كان هناك علاقة بين هذه المفاهيم من جهة، والجماعات الإسلامية/ الجهادية والأساس الخطابي الذي تقوم عليه، من جهةٍ أخرى.
يدعو جون كلسي في كتابه "مسألة الحرب العادلة في الإسلام" المسلمين إلى إعادة تفسير النصوص التي تُبرر الجماعات المتطرفة ممارساتها عبرها
يرفض جون كلسي تحييد دور الدين في تعزيز العنف الذي يناقشه، إذ يشير مُحذرًا في بداية كتابه إلى أن "أولئك الذين يرغبون بالقول بأن الإسلام لا علاقة له بهجمات 11 سبتمبر أو بأساليب "المتمردين العراقيين"، فإنهم لن يجدوا في هذا الكتاب إلى ما يرتاحون إليه سبيلًا".
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "أسئلة الحداثة في الفكر العربي".. من الهوية إلى المعنى
ومع ذلك، فإن تحليله يحترم الفروق الدقيقة في منطق الشريعة، من خلال تحليل الشرعية وتطور منطقها، وهو ما يفسر اهتمامه الكبير بالروايات التأسيسية في الإسلام، باعتبارها طريقة لفهم المصادر الدينية التي يتم استدعاؤها في الدعوات الحالية لإثبات الحركات الجهادية، مما يجعل من الكتاب أكثر من مجرد مسح بسيط للأنساب التاريخية لهذه الروايات، التي يُقدِّم تحليلًا شاملًا لها على الصعيد اللاهوتي والمعرفي، في ظل تأكيده على الكيفية التي يمكن من خلالها، إخضاع هذه النصوص التقليدية للنقد داخل الإسلام نفسه.
يأخذ الباحث في أخلاقيات الدين في كتابه هذا القارئ في رحلة مضيئة، تبدأ من زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتنتهي في زمننا هذا، وذلك عبر المصادر المقدسة للإسلام والجدل حول تفسيره، بالإضافة إلى المناقشات الداخلية بين من يسميهم بالمعتدلين والمتطرفين، وهي النقاشات التي تُشكل السياسة العالمية اليوم.
ويوضح المؤلف أن الجماعات الإسلامية والجهادية، مثل تنظيم "القاعدة" وغيرها، تسعى دائمًا إلى جعل ممارساتها شرعية عبر النصوص الدينية، وذلك عبر تحليل جميع خطابات وتصريحات قادة القاعدة. ولا تقتصر محاولته هنا على تتبع "القاعدة" والأسس القائمة عليها فقط، وإنما يذهب باتجاه وصف وتأصيل فكرة الحرب والجهاد في الإسلام، عبر السجل التاريخي والديني الطويل، وتاريخ تطوره منذ صعود الإسلام وحتى الوقت الحاضر.
يرى كلسي أن التفكير الإسلامي الكلاسيكي كان متنوعًا، لأنه يدرك أن الأحكام كانت سياقية وليست أيديولوجية، وهو ما يفسح المجال لمجموعة متنوعة من الاستدلالات في العالم الحديث. والحقيقة أن لاستخدامه في هذا السياق لمصطلح "الحرب العادلة" دلالة مهمة، ليس لأنه قدّم الحجج الأخلاقية فقط، وإنما البيئة الفكرية والسياسية التي ناقش فيها المسلمون أخلاقيات الحرب أيضًا، مثل: متى يحق للمسلم، أو يطلب منه، خوض الحرب؟ وكيف ينبغي أن تُدار؟ وعلى من يجب أن تكون؟
ويشير الكاتب إلى وجود علماء وفقهاء مسلمين يستشهدون بالخطاب الإسلامي حول الجهاد، للوصول إلى مواقف تعددية وديمقراطية، مقابل علماء وفقهاء يستشهدون بنفس الخطاب للوصول إلى مواقف وتبريرات لإعلان الحرب على العالم، ذلك أن مصطلح الجهاد، مع تعدد ارتباطاته المرعبة، مصطلح يستخدم على نطاق واسع اليوم، وقلة من الناس فقط يفهمون الظروف التي تتطلب إعلان الجهاد، أو "الحرب المقدسة" في الإسلام.
يرى جون كلسي أن التفكير الإسلامي الكلاسيكي كان متنوعًا، لأنه يدرك أن الأحكام كانت سياقية وليست أيديولوجية
وبحسب ما يراه الباحث المتخصص في الجماعات الإسلامية والجهادية، فإن المسلمين المتطرفين يستغلون بعض الثغرات في داخل الفقه والتفسير لتبرير وشرعنة أفكارهم، ومنهم ابن تيمية على سبيل المثال. ويرى أيضًا، في المقابل، أن هناك مسلمين معتدلين يحاولون تطهير ما تقترفه الفئة السابقة.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة عن دراسات الانتقال الديمقراطي.. مقارباتها وتقاطعاتها النظرية
ويدعو كلسي في هذا السياق المسلمين ذوي العقلية الإصلاحية، إلى إعادة تفسير وضبط ما تُحاجج به هذه الفئة المتطرفة، وهو بذلك إنما يساعد المسلمين وغير المسلمين، على فهم احتمالات الحرب والسلم في المستقبل في الإسلام، إذ إنه يُقدّم في كتابه قراءة مثيرة للانتباه في فهم الحرب في الشريعة الإسلامية، والإسلام المعاصر.
اقرأ/ي أيضًا:
كتاب "دعوة إلى العقلانية".. التاريخ الفكري والروحي للفلسفة في العالم الإسلامي