لا يزال اسم سارتر رنانًا، فالرجل الذي كان "عاصفة على عصره"، امتلك ما يجعله قابلاً للعيش في عصور أخرى، وإن على شكل نسائم هادئة تهب بين فترة وأخرى. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ولما يزيد على ثلاثين سنة، صار سارتر نجمًا في الأوساط الثقافية والسياسية، بل وفي الشارع أيضًا، وصارت فلسفته الوجودية موضة كاسحة أطلقت أجيالًا من الذين قرنوا حياتهم بوصاياها، حتى إن ثورة الـ68 الشبابية العارمة جعلت من بعض المقبوسات الوجودية شعارات لها.
امتلك سارتر مفهومًا صارمًا عن الالتزام، ورأى أن المثقف عندما يكتب فهو يلتزم بجعل العالم أفضل حالًا
امتلك سارتر مفهومًا صارمًا عن الالتزام، ورأى أن المثقف عندما يكتب فهو يلتزم بجعل العالم أفضل حالًا، وبالتالي فهو مسؤول أمام قرائه ومجتمعه وأمام التاريخ. وقد فجر هذا الإيمان موجة تفاؤل هائلة بين الكتاب والمثقفين الذين اتخذوا من الالتزام السارتري سلاحًا يقارعون به الدعوات العبثية والعدمية والنخبوية (الفن للفن)، لا سيما أن الصيغة المنافسة من الالتزام، الصيغة الماركسية، كانت قد صارت سيئة السمعة بسبب الغدانوفية الستالينية.
اقرأ/ي أيضًا: "أنت قدري": أسرار علاقة دي بوفوار مع عشيقها الشاب في رسائل جديدة
إلى جانب سارتر كانت سيمون دو بوفوار، المفكرة والكاتبة والناشطة النسوية الشهيرة. وفضلًا عن كونها صديقة وحبيبة فقد كانت شريكة في بعض الأفكار والرؤى وفي كثير من المعارك. ومعًا شكلا ثنائيًا فريدًا طافت شهرته جميع أنحاء العالم، ولا يزال إلى اليوم يشكل نموذجًا يحتذى، وقصة مثيرة للفضول والتأمل. ويبدو أن تفاصيل هذه الحكاية لا تنضب إذ يبقى هناك جديد دومًا.. هذا على الأقل ما تثبته هازل رولي في كتابها: "سيمون دو بوفوار وجان بول سارتر وجهًا لوجه ـ الحياة والحب" (دار المدى 2017، ترجمة محمد حنانا).
تبحث رولي في كتب الشريكين ورسائلهما إلى بعضهما وإلى آخرين، وتتوقف عند شهادات معارف وأصدقاء ومراقبين، لتكون النتيجة شبكة من العلاقات الإنسانية، متداخلة ومعقدة وغير مألوفة.
لقد آمن كل من سارتر ودو بوفوار بالحرية الفردية، وأرادا الخروج على العادات والتقاليد المقيدة والتي كانا مقتنعين ببطلانها، ومن هنا جاء اتفاقهما الشهير في بداية علاقتهما: أن يكونا حبيبين حرين تمامًا، لكل منهما الحق في عيش علاقات أخرى، مع شرط غريب ومحير: أن يرويا لبعضهما أدق التفاصيل عن هذه العلاقات.. ويبدو أنهما قد التزما هذا الشرط دون خرق واحد!
غير أن غرابة الأطوار هذه لم تكن بلا ثمن، إذ تخلفت عنها قائمة من الضحايا العاطفيين الذين راعهم أن يكونوا مجرد مواد للتجربة، كما شعروا بالخذلان إذ عرفوا أن تفاصيلهم الحميمية كانت تصل تباعًا إلى يدي شخص آخر متطفل ومتلصص.
تكشف الكاتبة أن سارتر ودو بوفوار لم يتبادلا الرسائل والأفكار فقط، بل والبشر أيضًا، فكثير من صديقات سيمون وتلميذاتها صرن عشيقات لسارتر، كما أن كثيرًا من مريديه صاروا عشاقًا لها.
آمن كل من سارتر ودو بوفوار بالحرية الفردية، وأرادا الخروج على العادات والتقاليد المقيدة والتي كانا مقتنعين ببطلانها
وثمة وجه آخر لسارتر يتكشف في الكتاب، فالفيلسوف الشجاع المحارب كان يعاني من نوبات انهيار الثقة بالنفس، كما كان بلا إرادة إزاء إفراطه في الشرب والتدخين، الشيء الذي سبب له أزمات صحية أوصلته إلى ما يشبه العجز في سنواته الأخيرة.
اقرأ/ي أيضًا: العودة إلى الالتزام
للنسوية الصلبة والعنيدة وجه آخر أيضًا، إذ كشفت رسائلها عن رقة وعذوبة مفاجئتين. لقد كانت تغازل وتعاتب وتتوسل وتعاني الغيرة.. مثل أي امرأة لم تدخل حقل الفلسفة أو تؤلف كتبًا.
تنجدل مع هذه الخيوط العاطفية قصة الشريكين الفكرية: كيف تقاربت أفكارهما، كيف طورا فلسفتهما المشتركة، المحطات الأساسية في رحلة نضوجهما الفكري، المعارك التي خاضاها، مواقفهما إزاء المعاصرين من الأدباء والمثقفين، تأسيسهما لمجلة الأزمنة الحديثة..
ولكن لم علينا أن نقرأ تفاصيل الحياة العاطفية للاثنين.. ألم يكن يكفينا أن نعرف أفكارهما من خلال كتبهما؟.
لا تقدم الكاتبة سيرة تشهيرية همها ترصد العيوب والنواقص وملاحقة التناقض بين السلوك الشخصي للكاتبين وبين القيم المنثورة في نتاجهما. بل هو تحقيق بارع يتحلى بروح موضوعية وحساسية رحبة لا تستعجل إطلاق الأحكام.. كتاب يهدف إلى إحلال الإنساني مكان الأسطوري، الصورة البشرية الحية مكان الأيقونة، الحقيقة المركبة والمعقدة مكان الكليشات البسيطة المختزلة.. وعلى الأرجح فقد نجحت المؤلفة في ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: