يعتقد الكثيرون أن أصل كذبة نيسان/أبريل ونشأتها يعود إلى القرون الوسطى وأن مصدرها هو أوروبا، ففي هذا الشهر كان وقت الشفاعة للمجانين و"المهابيل"، فكان يطلق سراحهم في الأول من هذا الشهر، ويصلي العقلاء من أجلهم، وفي تلك الحقبة نشأ "عيد جميع المجانين" أسوة بالعيد الأشهر في تلك الحقبة "عيد القديسين".
يعود أصل كذبة نيسان/أبريل إلى احتفالات رأس السنة البابلية والآشورية
ومن المعلومات التي درجت الصحافة على تداولها، وهو ما اعتمدته خطأً موسوعة "ويكيبيديا" الإلكترونية أن الأصل فرنسي، بعد تبني التقويم المعدل الذي وضعه شارل التاسع عام 1564، وكانت فرنسا أول دولة تعمل بهذا التقويم، وحتى ذلك التاريخ كان الاحتفال بعيد رأس السنة يبدأ في يوم 21 آذار/مارس، وينتهي في الأول من نيسان/أبريل بعد أن يتبادل الناس هدايا عيد رأس السنة الجديدة. وعندما تحوّل عيد رأس السنة إلى الأول من كانون الثاني/يناير ظل بعض الناس يحتفلون به في الأول من نيسان/أبريل، ثم انتشر على نطاق واسع في إنجلترا بحلول القرن السابع عشر الميلادي، ويطلق على الضحية في فرنسا اسم السمكة وفي إسكتلندا نكتة نيسان/أبريل.
اقرأ/ي أيضًا: علم النفس.. تأسيس إسلامي
ويرى آخرون أن هناك علاقة قوية بين الكذب في أول نيسان/أبريل وبين عيد "هولي"، المعروف في الهند والذي يحتفل به الهندوس في 31 آذار/مارس من كل عام، وفيه يقوم بعض البسطاء بمهام كاذبة لمجرد اللهو والدعاية ولا يكشف عن حقيقة أكاذيبهم هذه إلا مساء اليوم الأول من نيسان/أبريل.
قادني البحث إلى أن أصل هذا العيد يعود إلى احتفالات رأس السنة البابلية والآشورية، الشهير باسم "عيد الأكيتو"، حيث كان التقويم السنوي لدى هذين الشعبين يبدأ في الأول من نيسان/أبريل، ويستمر حتى الثاني عشر منه وكان من طقوسه الشهيرة "يوم المجانين" الذي توسعت بشرحه في كتابي "جذور النكتة الحمصية- حرب الأيديولوجيا الفكاهية وليتورجيا المجانين المندثرة"، فأحد أيام هذا العيد كان "يوم المجانين" الذي يصادف اليوم الخامس منه. وأقدم النصوص التي تشير إليه يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وهذا العام يصادف السنة 6766 حسب التقويم البابلي والآشوري الذي يحتفل فيه أحفاد هذا الشعب اليوم، الذين تمزقوا في كافة بقاع العالم، بعد حملات التطهير العرقي، اللاتي عانوا منها على مر العقود ولم يبق منهم في سوريا والعراق إلا بضع آلاف.
اختلف العلماء حول أصل التسمية "الآكيتو"، ولكنني أعتقد أنّ أصل الكلمة هو "يوم الآرض" لأنه في الأساس عيد زراعي ويرتبط بموسمي البذار والحصاد، فالكلمة كما أرى تتآلف من مقطعين "آكي" و"تو"؛ و"كي أو جي" بلفظ الجيم المصرية هي الأرض في اللغات القديمة، ومنها جيو في اللغات الأوروبية، وفي اللغة الصينية فإن "الكيا" أو "الجيا" هي الروح الكونية مانحة الحياة.
المدهش حقًا أن الاعتقادات الأوروبية التي ذكرناها في بداية هذا المقال حول عيد المجانين هي ذاتها الطقوس التي كانت متبعة في هذا العيد منذ نشأته قبل آلاف السنين، والغريب أن عيد رأس السنة السورية ارتبط طقوسيًا بما يعرف بكذبة نيسان وهو أمر لم يلتفت له المهتمون، وكل التفسيرات الواردة حول كذبة نيسان خاطئة.
في احتفالات رأس السنة، في الأول من نيسان/إبريل، كان يتم الانتقال من الفوضى إلى النظام
ففي احتفالات رأس السنة في الأول من نيسان/أبريل، كان يتم الانتقال من سنة إلى أخرى من الفوضى إلى النظام، ومع انتهاء احتفالات الآكيتو كانت الأمور تعود إلى نصابها بعد الفوضى الكونية قبل خلق العالم، ويبدأ الإله بترتيب الأرض.
اقرأ/ي أيضًا: هناهين الأعرس وزغاريدها.. طقوس الغواية ولهيب الحرب
والمثير حقًا أن "الكذبة الكونية" كانت ضمن طقوس الاحتفال وفيها كان يتنازل الملك عن عرشه لمجرم حكم عليه بالموت، ويصبح العبد سيد البيت، ويتنكر الناس بأزياء وأقنعة تخفي حقيقتهم كما هو عليه الحال تمامًا إلى اليوم، ويطلقون المزاح والنكات ويسود الهرج والمرج فيه، إلى أن يصحو الشعب من هذه الكذبة/الفوضى فيعدم المجرم وتعود الأمور إلى نصابها، ويعاد ترتيب ما خلفته الفوضى.
كان هذا اليوم الذي تنتزع فيه شارات المُلك عن الملك، ضمن طقوس ما يعرف بإذلال الملك، كي لا يتمرد على القوى الإلهية ويظلم الشعب الذي هو "قطيع الإله" ومن ضمن ذلك، صفع الملك وجره من أذنه وكلما كانت الصفعة قوية فهي تعني الخير للشعب وحبذا لو كانت صفعة تبكيه فالخير كله يكمن وراء دموع الملك التي تشبه بالمطر. يعتبر هذا اليوم كما يشير الباحثون يوم كفارة وتوبة الملك وله ميزة خاصة، إذ حين يكون الملك داخل المعبد وحيدًا يكون الناس في الخارج في هلع وخوف لأنهم يعتقدون بأن الإله قد اختفى وأصبح أسيًرا في عالم الأموات، كما أن الملك فقد صفة الملكية فأصبح المجتمع بدون إله وبلا ملك فيكون مجتمعهم تحت رحمة قوى الطبيعة والشر، وعندما يعيد الكاهن شارات الملك إليه تعود الطمأنينة إلى الناس، ويزداد اطمئنانهم في اليوم السادس والسابع بعد تحرير الإله "مردوخ" الذي يعني عودة النظام للكون بعودة ملك البلاد.
وبهذه المناسبة يتداول الشعبين السرياني والآشوري اليوم التهنئة التالية، وهي مستمرة منذ آلاف السنين: آكيتو بريخو.. أي سنة مباركة.
اقرأ/ي أيضًا: