هذه ترجمة لمقال نيكولاس بروكس عن كتاب "العالم المضطرب لكرة القدم في الشرق الأوسط". بروكس كاتب وصحفي مستقل من لندن. أسهم في عدد من المواد المنشورة في المملكة المتحدة، ويعمل حاليًا على إصدار كتابه الأول.
كيف تمتلك أكثر رياضة شعبية في العالم تأثيرًا هائلًا على السياسة والمجتمع؟
"العالم المضطرب لكرة القدم في الشرق الأوسط"، هو أحد أغنى الكتب وأكثرها احترافية وإبداعًا وأهمية التي كُتبت عن الرياضة. من خلاله يعرض المؤلف جيمس دورسي، دراسة شاملة وثابتة لكيفية تأثير كرة القدم، على السيطرة السياسية والاجتماعية والدينية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
"العالم المضطرب لكرة القدم في الشرق الأوسط"، هو أحد أغنى الكتب وأكثرها احترافية وإبداعًا وأهمية التي كُتبت عن الرياضة
يعرض جيمس دورسي كرة القدم هنا كأداة ثقافية معقدة، يمكن أن تستخدم كأداة للقمع، لكن على الرغم من ذلك يمكنها أن تكون وسيلة لمعارضة السلطة أيضًا. ويضرب جيمس دورسي أمثلة على براعة استخدام اللعبة كوسيلة استبدادية، من خلال قصة الساعدي القذافي، ابن معمر القذافي الذي حكم بلاده لعقود طويلة. كان يملك الساعدي القذافي نادي "الأهلي طرابلس" الشهير، ويديره ويقوده، بالإضافة إلى تبوّئه منصب رئيس الاتحاد الليبي لكرة القدم. يُقال إن الساعدي القذافي تسبب في قتل لاعب ومدرب وطني انتقد نفوذه، ودبر لإسقاط منافسه نادي "الأهلي بنغازي" من الدرجة الأولى، في كرة القدم الليبية، ودمر ملعبه تمامًا، عندما احتج المشجعون ضده.
اقرأ/ي أيضًا: ناجي رحيم.. لعبة أرشفة الخوف
ومع ذلك، فبمقارنة أعمال الساعدي القذافي مع حالات قامت فيها اللعبة بتعطيل هياكل السلطة، يثني جيمس دورسي للقراء على التوصل إلى استنتاجات بسيطة. وهي أن النادي "الأهلي"، الذي تأسس في القاهرة عام1907 كان بمثابة رد على النوادي الرياضية التي أقامتها قوات الاحتلال البريطانية، التي استبعدت السكان المحليين، مما يوضح كيف صار النادي بسرعة "نقطة استقطاب قومية معادية للاستعمار ومناهض للملكية". ومثلما حدث في القاهرة حدث في الجزائر، إذ كان قرار هروب 10 لاعبين جزائريين من فرنسا في عام 1958 - والشروع في جولة حول العالم لتعزيز جبهة التحرير الوطني - قد أعطى قوة دفع كبيرة لاستقلال الجزائر.
في نهاية المطاف، تبدو كرة القدم قوة فوضوية، منطقة حرب مجازية (إلى حد كبير) في منطقة مدمرة بالصراع الحقيقي. وبالتالي، يصبح الملعب مساحة هامة لجيمس دورسي؛ ساحة قتال من أجل السيطرة بين الحكام الذين يريدون فرض النظام والمشجعين، الذين يريدون إحداث التغيير.
على الجانب الآخر يرى جيمس دورسي أنه كثيرًا ما تُستخدم الملاعب كمسارح للإرهاب؛ ومواقع تنفذ فيها الأنظمة القمعية عقوبات معبرة لتعزيز ثقافة الخوف. أمثلة على ذلك في العراق، حين وبخ عدي صدام حسين، الفريق الوطني في ملعب "الشعب" في بغداد عندما فشلوا في التأهل لكأس العالم، وهو فعل يعكس العلاقة بين النجاح في الملعب والسيطرة السياسية. وفي ظل حكم طالبان، كانت الملاعب في أفغانستان تستخدم بصورة روتينية لتنفيذ عقوبات شعائرية، وحرق المواد المهربة وقتل المنشقين.
ومع ذلك، بينما لا يزال الأفغان يخشون دخول ملعب "غازي" في كابول بعد الظلام، يذكر جيمس دورسي القراء بأنه في دول أخرى، تعتبر ملاعب كرة القدم مكانًا مركزيًا، في الكفاح من أجل تحويل الأنظمة القمعية إلى مجتمعات أكثر انفتاحًا وديمقراطية.
في الواقع، في معظم أنحاء المنطقة، صارت هي المكان العام الوحيد الذي يقع خارج نطاق الاستبداد. يقارن جيمس دورسي أوجه الشبه بين الملعب والحرم الجامعي –الذي طالما كان أرضًا خصبة للثورة- مقدمًا الحرم الجامعي باعتباره "حاضنًا مثاليًا للاحتجاج". وكما يلاحظ، فتصميمها لا يعمل فقط على تبسيط نشر الأفكار، ولكنه كذلك يوفر المتظاهرين "قوة العدد"، وفي الحالات التي يتم بث الألعاب مباشرة، يهدد بالكشف علنًا عن أعمال القمع التي يرتكبها النظام.
التعارض بين كرة القدم والإسلام
وسط دراسة جيمس دورسي هناك قصة رائعة عن "الألتراس المصري"، المشجعين المتعصبين الذين لعبوا دورًا حاسمًا في مظاهرات ميدان التحرير في عام 2011، والتي أطاحت بالرئيس المصري وقتها حسني مبارك. من خلال توضيح كيف أن هؤلاء المشجعين –عن طريق اشتباكات موسعة مع قوات الأمن داخل الملاعب- كانوا محورًا في كسر حلقة الخوف التي غطت المجتمع، يعرض للقراء منظورًا مذهلًا يمكن من خلاله استكشاف الربيع العربي.
ساهم "الألتراس المصري" في مظاهرات ميدان التحرير بشكل حاسم، لخبرتهم الطويلة في منازلة الشرطة
أظهر الألتراس أن "قوات الأمن لم تكن منيعة"، وبذلك فتح الباب للتغيير. علاوة على ذلك، كانت هذه الاشتباكات في الملاعب بالغة الأهمية، عندما يتعلق الأمر بالاحتجاجات نفسها. تجربة الألتراس "أجبرتهم على تطوير مهارات، كانت غريبة على الطبقة الوسطى"، وبدون نضالهم وتنظيمهم، ربما كانت استقالة مبارك أمرًا مستحيلًا. من خلال رسم خريطة استيعاب كلمة "ألترا" في مجالات أخرى في المجتمع المصري، يوضح دورسي الأثر الكبير للمجموعة. على سبيل المثال "ألتراس نهضاوي" هم مجموعة من النشطاء يرتبطون بجماعة الإخوان المسلمين وبمرسي، وليس بأي نادي معين لكرة القدم.
اقرأ/ي أيضًا: تريد أن تقتل كتابك؟ انشره في الجزائر
كتاب "العالم المضطرب لكرة القدم في الشرق الأوسط"، يتيح لجيمس دورسي التحقيق في العلاقة المعقدة بين كرة القدم والإسلام. وهو هنا يكشف النقاب عن مفارقة أخرى مفادها أنه على الرغم، من أن العديد من الإسلاميين لطالما استنكروا اللعبة، إلا أنهم غالبًا ما استخدموها لجذب الشباب الإسلامي.
حرم رجال الدين المتشددون كرة القدم على أساس أنها غير إسلامية، وأنها تشتت الأذهان عن شرور الغرب، وأن قواعدها تخالف الشريعة الإسلامية. وحذر مفتي المملكة العربية السعودية السابق محمد بن إبراهيم آل الشيخ من أن كرة القدم يمكن أن تؤدي إلى "ظهور الكراهية والكذب"، مدعيًا أن اللعبة تتعارض مع المفاهيم الإسلامية، وهي "التسامح والأخوة وتقويم وتنقية القلوب".
عندما سيطرت "حركة الشباب" على أجزاء كبيرة من الصومال، كانت مشاهدة كأس العالم محظورة كليًا. إذ كانت المنازل تُداهَم، ومن يُلقى القبض عليه لمشاهدة اللعبة كان يتعرض للجلد أو الإعدام. بيد أن "مرشد حركة الشباب" أسامة بن لادن حمل حبًا عميقًا للعبة: إذ عُرف بتشجيعه لفريق أرسنال الإنجليزي، وكان ينظم مباريات كرة القدم في طفولته ويستخدمها "كمنصةً في نشر آرائه المتشددة عن الإسلام". علاوة على أن صديق طفولة لبن لادن يتذكر كيف كانوا يشجعونهم كي يحضروا حصص حفظ القرآن الإضافية خارج المقررات الدراسية عن طريق الوعود بأن يُسمح لهم ممارسة كرة القدم. كانت المباريات تُنظَّم دومًا تنظيمًا سيئًا، فيما صارت الخطب أكثر عنفًا بكثير. ويوضح جيمس دورسي أنه مثلما يمكن لملاعب كرة القدم أن تكون "حاضنة (مثالية) للاحتجاج"، فيمكن أيضًا للفرق أن تضطلع بدورٍ حاضنٍ للجهاد. في كثير من الحالات، كانت خلفية المباراة "تشجع الصداقات الحميمة وتعزز التشدد". أتاح تجنيد الأفراد من فرق كرة القدم خلق "مجموعات جهادية قوية ومتماسكة"، وخلايا متلاحمة تتواصل مع بعضها وجهًا لوجه ويصعب انهيارها.
يصل دورسي إلى استنتاج صحيح مفاده أن إدانة كرة القدم تعود في الأساس إلى "التهديد المحتمل الذي تشكله على السيطرة السياسية والاجتماعية" بخلاف أي شؤون أخلاقية. إذ يعرض عبر هذا أن كرة القدم تعتبر إحدى الأدوات المعقدة، التي تصير مصدر تهديد لهيكل السلطة، عندما تتجاوز سيطرتها.
كيف تؤثر كرة القدم على نسيج المجتمع؟
يستكشف الكتاب أيضًا تأثير اللعبة بوصفها مشكل للهوية، في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مُستجليًا باستفاضة كيف يمكن لكرة القدم أن تعطى النساء فرصة لتحدي الأنظمة، التي حطت من منزلتهن وأوصلتهن إلى منزلة مواطني الدرجة الثانية. ويضرب الأمثلة على ذلك، بأنه بعد أن تأهلت إيران إلى كأس العالم 1998 "تحولت الاحتفالات إلى تعبير عن رفض القيود الصارمة في إيران على الاختلاط ما بين الجنسين، وعلى ظهور الإناث في الأماكن العامة، وعلى استهلاك الكحوليات".
وفي عام 2012، تنكرت سيدتان إيرانيتان في زي رجلين حتى تتمكنا من حضور المباراة التي أقيمت في مرحلة التصفيات ضد كوريا الجنوبية، وأفصحتا عن هويتهما علنًا بعد المباراة. يعرض كلا الحادثين أن كرة القدم تفتح الباب لـ"التحدي النسوي". وبطريقة مماثلة، عندما شجعت الفيفا على فرض عقوبات على البلاد التي لا تمتلك فرقًا نسائية، أجبرت سحر الهواري، الابنة الجريئة لأحد حكام كرة القدم الدوليين، الدول العربية على تكوين هذه الفرق. كانت اللعبة النسائية مصدرًا لكثير من الجدل، إلا أن دورسي يوضح ببراعة، أن رد الفعل العنيف يعود جزءًا كبيرًا منه إلى المحافظة على التدين.
أدى اعتراف الفيفا بمنتخب فلسطين إلى إضفاء نوع من الشرعية على "التطلعات القومية
يوضح جيمس دورسي أن كرة القدم يمكن أن تثبت ضرورتها في ترسيخ الهوية القومية. ففي حالة فلسطين، أدى اعتراف الفيفا بمنتخب فلسطين إلى إضفاء نوع من الشرعية على التطلعات. وفي عراق ما بعد صدام، وحّد فوز العراق بكأس الأمم الآسيوية في عام 2007 أمةً كانت على حافة حرب أهلية. نُقل على لسان أحد الموظفين بوزارة التعليم العراقية قوله "لا يمكن لأي من رجال السياسة في بلادنا أن يجمعنا تحت راية واحدة مثلما فعلت كرة القدم". ويثبت دورسي مرارًا وتكرارًا أن كرة القدم يمكنها حقًا أن تُحدث التغيير داخل المجتمع.
اقرأ/ي أيضًا: طه حسين.. أوراق مجهولة بالفرنسية
إذا كان من الممكن توجيه أي نقد إلى كتاب "العالم المضطرب لكرة القدم في الشرق الأوسط"، فسيوجه إلى أن تركيزه واسع للغاية، وأن تأثير كرة القدم داخل المنطقة بعيد المدى ومتناقض على ما يبدو. ونتيجة لهذا، لم يستطع جيمس دورسي أن يوحد استنتاجاته في رواية واحدة واضحة. ولا سيما أن الفصل الأخير – حيث يستجلي دورسي دافع الدول الخليجية للمبادرة نحو صفوة كرة القدم العالمية – يبدو منفصلًا بدرجة ما عن باقي الدراسة، إذ يبدو تقريبًا أنه نقطة البداية لكتاب آخر. إلا أنه عملُ مميز، وهو نتاج لبحث شديد التدقيق يرسخ دورسي من خلاله كرة القدم باعتبارها، مؤسسة ثقافية كبيرة ولعبة يمكنها إثارة مشاعر متجذرة تستطيع الاستمرار، في إزعاج هياكل السلطة، وسوف تفعل ذلك.
ويكافئ الكاتب القراء بين دفتي الكتاب بثروة من القصص الرائعة: إذ نعرف أن اللاعبين في ليبيا كان يُشار إليهم بأرقامهم فقط حتى لا يصيروا مشهورين، وأن الزعيم المصري جمال عبد الناصر، الذي مكث طويلًا في سدة الحكم، كان يناقش بانتظام نتائج فريق الأهلي خلال الاجتماعات الوزارية على الرغم من أنه لم يبد اهتمامًا حقيقًا باللعبة، وأن الدراسات في مصر وجدت علاقة واضحة بين معدلات الطلاق وتشجيع كرة القدم.
على الرغم من أن كتاب "العالم المضطرب لكرة القدم في الشرق الأوسط" حصل على مديح من منظمات وحملات على شاكلة ChangeFIFA (تغيير الفيفا)، فقد حظي بإهمال نسبي منذ نشره في العام الماضي. ولعل السبب يكمن في أن هذا الكتاب الرائد يغطي مساحة كبيرة تبدو أنها تتقلب بين عدد من التصنيفات المنفصلة. فالفصول متميزة، غير أنها توحي بإمكانية وجودها في مقالات منفصلة عن بعضها بعضًا.
لكنه يستحق أن يُنظر إليه على أنه عملُ قياسيٌ، يلهم العديد من الدراسات المشابهة، التي ترسخ كرة القدم باعتبارها ممارسة شديدة الأهمية داخل المنطقة في القرن الحادي والعشرين، بل وربما تأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد الإسلام نفسه.
اقرأ/ي أيضًا: