صارت حمدة بطلة قصصي.. ومنذ أن عرفتها تلعثمت كلمات الغزل في فمي، وصرت أحقد على الشعر وصوره، على أبياته وقوافيه، على البلاغة كلّها.. واللّغة. إذ أين أجد فيها قصص حمدة؟ تفاصيل وجهها، أنفها الصغير. أقول لها: يا حمدة تعالي نتبادل الأنوف. تضحك عاليًا: "No teacher".
لا مدرسة في الصيف، تجنّ. "No school July and August؟". لا يا حمدة. ستزورني في بيتي إذًا. هكذا تتوعّدني، وأضحك أنا هذه المرّة وأذكرّها بسفري. ستسافر معي إذًا. "كندا نوو جود"، لماذا يا حمدة؟
منهل السوري سيدفع مليار دولار كي يأتي بابن أخيه إلى هنا. مليار يا منهل؟ "إيه والله يا تيتشر" قتل أبوه في الحرب حين كان ما يزال رضيعًا. "يا الله، قصص سوريا، كم هي حزينة"
طرق المدير باب صفي المدير ليخبرني أنها تبكي. كانت حمدة تنتقل على هاتفها بين الطبيب والمترجم. هي اللغة مجدّدًا، تعقد لسانها وتعقّد أحوالها. كيس الدواء في بيتها يتضخم. لم تأت إلى المدرسة لبضعة أيام، افتقدتها، ما عاد باستطاعتها دفع إيجار شقّتها، حصلت على بطاقة الإقامة الكندية وانقطعت عنها بعض المساعدات، فوجدت عملًا تتكسب منه في نهاية الأسبوع. لكنه بعيد، بعيد جدًا، تقول. ماذا تعرف حمدة عن البعد والمسافات؟ تعرف الكثير، وهي التي انتقلت عبر الأمم المتحدة إلى أثيوبيا بعد مقتل أفراد عائلتها الثمانية في الصومال. وهي التي انتقلت إلى كندا البعيدة جدًا العام الفائت. وهي التي تنتقل اليوم من أول مكان إقامة لها هنا. ما زالت في الثالثة والعشرين من عمرها وتقول إنها ابتعدت كثيرًا عن المؤسسة الزوجية. وإنها تعتبر عجوز عانس في الصومال.
سحر بكت كذلك. "كندا نو غوود" سحر ليست لاجئة. أفغانية مولودة في إيران. تعبق بمسك وبخور مرقد الإمام رضا في مدينة مشهد الإيرانية، مدينتها. تتذكره بحسرة، وهي التي كانت تزوره بانتظام. تتكلم عنه بدهشة، ما حمسني لأبحث عنه على ويكيبيديا. من هو الإمام رضا أو رزا كما ينطق بالفارسية؟ إذًا، أنا وسحر من نتحدر من سلالتين متخاصمتين. لقد مات مسمومًا كما مات من سبقه ومن خلفه من أئمة عبر التاريخ، على يد الخليفة العباسي المأمون. إنه التاريخ الذي لم يصل إلي. إنها قصة الطرف الآخر. لن أخبر سحر بفضائح ويكيبيديا. لن نختلف على جرائم أبطالنا. سحر الجميلة الرقيقة، كم تشبهني حين وصلتُ إلى هذه البلاد. أخفّف عنها. أسرد لها قصصي، معاناة الغريبة في البلاد الجديدة: البرد يا سحر سيتراكم على جلدك طبقات قاسية. وستجف دموعك مع الزمن. وستقفين في وجه الأقربين (الأبعدين) وتقولين أنا أولًا. سحر الفنانة، ترسم بشكل بديع، وكونها امرأة إيرانية فهي ممنوعة من مزاولة شغفها في الرسم. أما خالتها فهي شاعرة ولها مجلّدات منسوخة تحتفظ بها في بيتها. "شعر" تقول سحر بالفارسية. وتتابع: زوج خالتها قام برحلة إلى أفغانستان خلال حكم طالبان منذ ثلاثين عامًا. وأخذ معه الأولاد.. تضع أصبعيها على طرفي عينيها لتمط جلد جفونها، وتضيف "بسبب شكله الآسيوي ما رجع ابدًا". جنّت خالتها. عولجت بصدمات كهربائية في رأسها مرّات ومرّات. ولجأت إلى الشعر لترثي عائلتها.
"كندا نو غوود"، تتحدث حمدة باسم بنت بلدها ريان. "نو غوود". ريان لم تحصل عل أيّ أوراق ثبوتيّة في هذا البلد بعد! ابنة التاسعة عشر الخارجة حديثًا من السجون الليبية بسبب إقامتها غير الشرعية. هربت من موت بلدها فسجنت ولم تكن قد تجاوزت الخامسة عشر.
لكن منهل السوري سيدفع مليار دولار كي يأتي بابن أخيه إلى هنا. مليار يا منهل؟ "إيه والله يا تيتشر" قتل أبوه في الحرب حين كان ما يزال رضيعًا. "يا الله، قصص سوريا، كم هي حزينة". منهل الذي كان يتباهى بصور نرجيلته وكوب الشاي: "القعدة الملوكية".. وإذ أقول له: "نيالك" يقول لي "بس شوفي" وأشار الى مجسّم المسجد الأقصى في الصورة: "شوفي هاد أهم شي عندي". خلف الشيشة والمكسرات الأكسترا واللابتوب؟ سألته، "وماذا ستفعل، ستحرره؟". فأجاب وليد، السوري هو الآخر: "إيه يحرر سوريا بالأول".
في اليوم التالي أخبرني منهل أنه سيدفع مليار دولار كي يرجع إلى عكار في لبنان، التي أمضى فيها تسع سنوات. مليارات منهل كثيرة، وهو طيّب كثيرًا كذلك. يريد أن يرجع حين يحصل على الجنسية. فهو لا يملك جواز سفر. يا لجواز السفر. وحين تحصل عليه يا منهل؟ قد ترجع، وتكتشف أنك لم تعد إلى المكان الذي كان. وأنك لم تعد من هناك ولن تصبح أبدًا من هنا.
حابتي وفيوري، زوجان من أريتريا. تغيّب حابتي عن الصف لشهر كاملٍ، كان في السودان، يزور والدته التي لم يرها طوال أحد عشر عامًا. وافترق كذلك عن فيوري المدة نفسها تقريبًا. فيوري والأولاد كبروا في غيابه.. كان يعمل مع الجيش وهرب من أريتريا إلى إثيوبيا فالسودان ثم فلسطين المحتلة قبل وصوله إلى كندا. يصحح لي: "إسرائيل" وأقول له: نعم فلسطين المحتلة. كان يستطيع أن يعاين الحدود اللبنانية من مكان عمله في شمال الأراضي المحتلة. وكلما تأزمّت الأمور هناك، كان يُهدد بالترحيل ومن معه من أبناء جلدته الداكنة. أبناء بلده. "كندا غوود" إذًا يا حابتي. إنها قصص المهاجرين وأرواحهم الهائمة. لا هنا ولا هناك: برزخ. هذا المكان هو البرزخ.
تغيّب حابتي أسبوعا كاملًا عن الصف. حذّرته، قد تفصلك الإدارة لو تكرّر غيابك من دون دواع مرضية. ثمة هائمون كثر على لوائح الانتظار. وقد يخسر المعونة المالية التي تمنحها له الحكومة لو فُصِل من المدرسة. "كنت أعمل. لدينا أربعة أطفال" وأنا لا أقوى على منعه. هو رجل كادح. فيوري تحبه. لم أفهم من قبل سرّ تعلقها الزائد به حد الالتصاق، رغم أنه أحيانا يوبّخها، واضطر لتذكيره أنه في كند. ثم لا يسعني إلا احترامهما. احترام معاناة أسرة على هذا الكوكب برمته.
جميلة، الجميلة كما رقصة السالسا في بلادها. الكولومبية الممتلئة بالحياة. تتحرك وتتكلم على إيقاع موسيقى اللّغة الإسبانية. وتهرب من مدينة إلى أخرى في كولومبيا بالإيقاع نفسه، بالخطى نفسها، بالحب، بالخوف، بالإصرار، بإيمانها بالحياة
جميلة، الجميلة كما رقصة السالسا في بلادها. الكولومبية الممتلئة بالحياة. تتحرك وتتكلم على إيقاع موسيقى اللّغة الإسبانية. وتهرب من مدينة إلى أخرى في كولومبيا بالإيقاع نفسه، بالخطى نفسها، بالحب، بالخوف، بالإصرار، بإيمانها بالحياة.. عشر سنوات وهي في هروب دائم وإقامات مؤقتة كي تحمي ابنها بعد أن بلغ الخامسة من عمره وقرّر والده إلحاقه "بالجوريلاز" أو القوات المسلّحة الثوريّة الكولومبية. لم تكن تعرف أن زوجها واحدا منهم. بكيتُ أمامها. هذا ليس فيلمًا أمريكيًا، هذه تلميذتي من لحم ودم أمامي.
" كندا غوود". والتر الكولومبي، الذي احتفلنا بذكرى ميلاده التاسعة والسبعين الأسبوع الفائت، تعرض للخطف في العام 1984. قضى مخطوفًا ستة أشهر، جريمته أنه كان صاحب مزرعة. تنحرف الثورات عن مسارها في معظم الأحيان، وينسى الثوار أهدافهم النبيلة. يحملون بنادقهم في وجه أهلهم وتتدخل الدول العظمى لتبارك سيلان الدم، والجوع وحملات التهجير. وتنتهي الحرب ربما. وتبقى الثورة في الأزقة، مرميّة كوحش كاسر يتألّم وينزف. يتجمّع حوله الأطفال السمر الحفاة. يضحكون عليه. زمنا قد يطول حتى ولادة جيل آخر وربما ثورة أخرى. سألت جميلة إذا كانت تشتاق كولومبيا. "كولومبيا القلب، كندا العقل" أجابت.
لا أخبار عن والدة وليد السوري. طفل الصف. تحتاج خمس كفالات كي تترك سوريا إلى كندا. لا لمّ للشّمل، وقد تزوّج الوالد مرة ثانية.
أشتاقهم في العطل! قصص تلامذتي ويومياتهم تأسرني! أقف أمام المرآة وأنظر في عيوني. يا لحظي. غيّرتني قصصهم. منعتني من قراءة الروايات الطويلة الملائمة لشتاء كندا، "حكي زيادة". تقبّلت فكرة الثلوج الكثيرة والبيوت المجهّزة بأحدث وسائل التدفئة والسيارات الراكدة في كراج آمنٍ ودافئ كذلك. مرّ علينا "لوكداون" رابع أو خامس، ولم أشعر بمروره. زاد وزني كيلوغرامين ولم تكن نهاية العالم. وسأزور لبنان هذا الصيف، وأنا اعدّ آلياّتي الدفاعيّة والحربيّة كي أقصف جبهة كلّ من ستطلق رصاصة على خطوط وجهي التي زادت بعد غياب أربعة أعوام. حتى لو كانت جبهاتهن "بلاستيكية". الثورة على غطرسة النساء في بلدي.
كتب أحد "الأنفلونسرز" الإسلاميين في كندا، عن سوء معاملة الهندوز للمسلمات المتحجبّات في مدارس الهند، فكتبت له، إنني، بحكم عملي، اكتشفت أننا كلنا شركاء في الشر. فعلّق أحدهم يشكرني ويقترح عليّ مشاهدة فيديو عن سوء تعامل المسلمين مع الهندوز في باكستان وغيرها. وسألني آخر، بنوع من الاحتقار، إن كنت حقًا مسلمة؟ نعم مسلمة. لم أجبه
صارت تقرأ. حمدة صارت تقرأ. حرفًا فحرفًا.. كلمة فكلمة. قرأت النص عانقتها.
"Teacher very good wallahi!"!