شهدت كوبا ضرب الحصار الأمريكي حول سواحلها الكاريبية وسمائها منذ حقبة جون كينيدي مطلع ستينيات القرن العشرين وصولًا إلى عصر أوباما وكاسترو الأخ، لتنشغل ساحة الجدل ما بين التهليل بالنصر الكوبي أو تبرير الانزياح الأمريكي، دون تطرق الجدل السياسي الدولي المتشبع بإرث نقاشات حقبة الحرب الباردة إلى ما عناه أو سعينيه فك هذا الحصار وإعادة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية ما بين الجزيرة المعزولة والإمبراطورية الأمريكية على الكوبيين أنفسهم، على أسواقهم ومداخيلهم وموائدهم ولربما علاقتهم بمؤسسة الدولة وبمجمل الفعل السياسي.
في المقابل، لكن شرق المتوسط هذه المرة، حصار آخر ابن القرن 21 كما هو ابن العلاقات الأمنية المصرية الإسرائيلية المباشرة بما يشتق عن كامب ديفيد وخليلاتها بحضور لا يمكن إنكاره لقيادة السلطة الفلسطينية في رام الله، مضروب منذ عشر سنوات حول غزة حتى الآن، ولم يكن يومًا خارج وصف الحصار المطبق، فحتى تقنية الأنفاق بما مثلته من متنفس طارئ للقطاع المحاصر سواء للمقاومة أو لمنتظري جرعات الحليب لأطفالهم شهدت القصف والتعويم بمياه الصرف الصحي ومياه البحر وما زالت، كما لم تسلم عائلات رفح في الجانب المصري من هدم منازلها وتهجيرها قسريًا بدعوى إنشاء شريط حدودي آمن.
كل ما يحق للفلسطيني المحاصر في غزة وفق ما تقوله حواصل محاصريه هو الموت، أو الرقص مع رايات بيضاء ينتقيها ويحدد مقاساتها وزراء حرب العدو عبر القاهرة
لم تكن عوامات الكوبيين مرحب بها على شواطئ فلوريدا من قبل رجال مكتب الهجرة الأمريكي ومحققي وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية إلا في إطار ما يصب في خانة رواية الأمريكيين عن العدو القريب، فيديل كاسترو، وهو ما يبدل المشهد البصري نحو أمثولة أوليفر ستون السينمائية "Scarface" لدى دخول آل باتشينو، بدور المهاجر الكوبي توني مونتانا، إلى الأرض الأمريكية، وتعرضه لاستفزازت المحققين ما وصل إلى ثورته في وجوههم مطالبًا بحقوقه كلاجئ سياسي إلى الولايات المتحدة.
اقرأ/ي أيضًا: سوريا بتوقيت الدولة.. مجتمعات العسكرة
لكن توني مونتانا لا يمتلك حق الصراخ في حالة الجزيرة الغزّية، وغير مصرح له بذلك، فكل ما يحق للفلسطيني المحاصر في غزة وفق ما تقوله حواصل محاصريه هو الموت، أو الرقص مع رايات بيضاء ينتقيها ويحدد مقاساتها وزراء حرب العدو عبر القاهرة، كما جرت العادة في إعلان حروبهم على الفلسطيني في حضرة وضيافة مصر العسكر.
ما خلق الربط الأولي، كوبا-غزة ليس الحصار وحده، بل هو الاختطاف أيضًا، "ياسر زنون، حسين الزبدة، عبد الله أبو الجبين وعبد الدايم أبو لبدة"، وهم الشبان الفلسطينيون الأربعة المختطفون لدى الأمن المصري منذ عام سبق، 19 آب/أغسطس 2015، يحتجزهم الأمن المصري دون الاعتراف بذلك، على الرغم من صور لبعضهم في مركز احتجاز بالقاهرة، أظهرتهم بحال بدنية رديئة، وكذلك تأكيدات شهود العيان ومجريات عملية الاختطاف العام الفائت التي تمت تحت أعين الأمن المصري ومن إحدى حافلاته على طريق مراقب ومسيطر عليه من قبل ما يتوفر من جيش مصري شمال سيناء، وما كانوا إلا متوجهين رفقة الأمن المصري نحو مطار القاهرة من معبر رفح، وهو السبيل الوحيد المتوفر لتوصيل الغزيين بالعالم إن حصل وعبروا معبر رفح باتجاه الأراضي المصرية، وهو ما شح ويندر حدوثه.
منذ يوم اختطافهم استمرت مطالبة أهاليهم وحتى خطباء المساجد والشخصيات الرسمية في حماس بتوضيح مصيرهم وإطلاق سراحهم، بما أنه لا جرم يدانون به أمام القضاء المصري، في المقابل تغرق أصوات النظام في القاهرة في فوضى تصريحاتها، بين الاعتقال ونفيه، بين تجارة المخدرات والإرهاب، وأحيانًا الجزم بأنهم قساميون في مهمة داخل الأراضي المصرية، التهمة التي تحوز على السفاهة ما يكفي لعدم ملاحظة مطلقيها أن المختطفين كانو بصدد مغادرة مصر مباشرة وما دخولهم عبر رفح إلا من باب الترانزيت، لكن يبدو أن القسام وصل مرحلة تصنيع آلة الزمن من زاوية نظر الأمن المصري ولم يكتف بالأنفاق والصواريخ محلية الصنع فقط.
التخبط المصري والعجز عن إخفاء معالم الجريمة كاملة شبيه بذلك الذي عانته إدارة بيل كلينتون 1998، لدى احتجازها خمسة من المواطنين الكوبيين، الموجودين في الولايات المتحدة بطريقة قانونية أيضًا، بدعوى تجسسهم وتحضيرهم لأنشطة تجسسية وعدائية ضد واشنطن لصالح فيديل كاسترو، تمامًا كما تقوم القاهرة بمحاولة تسويغ اختطافها واعتدائها على حياة ومصير الشبان الأربعة أسوة بالاعتداء على مصير كل من تحاصره السلطات عينها عند حدودها الشمالية مع القطاع الذي تحاصره.
المأزق المركب المشترك بين الحالتين أنهما شهدتا حجز حرية مواطني بلد في بلد آخر، دون توجيه اتهام مسند قانونيًا أو توفر ما ينص على دستورية فعل حجز حريتهم، وكذلك دون توفر جرم أساسًا يستدعي الفعل المضاد أو تفعيل الولاية القضائية، سوى ما كانت تفرضه منهجية العداء الأمريكي لكوبا في حالة مختطفيها الـ5، وكذلك منهجية القاهرة في استعداء الفلسطيني وإعلان الحرب عليه أينما حل. كما توضح حالة المختطفين الـ4، كما أن التسويف والمماطلة والتنصل من المسؤولية لم تعف الولايات المتحدة من إعلان مسؤوليتها وحيازتها للكوبيين الخمسة ومن ثم إطلاق سراحهم بعد عقد ونصف على اختطافهم، فكذلك لن تدوم أي أحابيل يحاول النظام في القاهرة تمريرها بشأن الشبان الأربعة المغيبين لديه، هذا لأن اختفاءهم كان على أراضيه، فحتى لو صح ادعاؤه أنه لم يقدم على الفعل، فهو ما زال مسؤولًا عن كشف الفاعلين ومحاسبتهم بعد كشف مصير المختطفين واستعادتهم لحريتهم، فالاختفاء القسري جرم موصوف ضد الإنسانية وفق الفقرة السابعة من نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية.
اقرأ/ي أيضًا: