في اللحظة الأولى لظهوره على المسرح السياسي الدولي ظنَنْتُ أنه الأصل الذي حاكاه صانعو تشاكي، الدمية القاتلة التي تدور حولها سلسلة أفلام رعب شهيرة، لكنني تذكرتُ بعد قليل أن الفيلم صُنع قبل أن يكون جاريد كوشنر على هذه الشاكلة، وتلك الملامح، إذ بالكاد بلغ عند صدور الجزء الأول، عام 1988، السابعة من عمره وحسب.
بُنيت أمريكا على أساس توراتي. قُتل سكّانها الأصليون على أيدي المهاجرين الأوروبيين البيض كما قُتل الكنعانيون على أيدي العبرانيين
بعد قليل من الوقت، ومع تشكيل مزيد من المعرفة بالمهمة التي جاء لأجلها، بدأتْ أدواتُ التشبيه بينه وبين تشاكي تزداد باطراد، ولم يعد الجانب الشكليّ هو الوحيد الذي تقوم عليه تشبيهاتي، والنتيجة النهائية لكل ذلك أنه الشخص نفسه، فبينما راح تشاكي يسابق الوقت بالقتل ومراكمة الجثث لكي يحصل على حياة بشرية، ويتخلّص من اللعنة التي أرغمته على السكن القسري داخل جسد دمية؛ راح كوشنر منذ تنصيب حميّه الملكِ المجنون، دونالد ترامب، الرئاسة في الولايات المتحدة وتكليفه بالاعتناء بعدة ملفات، أهمها ملفّ السلام؛ منذ ذلك وكوشنر يسابق الوقت والجثث وحقوق الشعوب، كما يليق بوزير مستعمرات، بالطرق الفاسدة والضّالة التي بنى بها فصول حياته السياسية مراكمًا بها مالًا في أعماله الفاشلة، وبالقسوة المتخفية وراء قناع النعومة لكي يُنهي مفهوم العالم المعاصر للقضية الفلسطينية، ويغسل أيدي الصهيونية من جرائمها.
اقرأ/ي أيضًا: عزيزتي إيفانكا.. إلى "حائط المبكى" وبئس المصير
شخصية هذا الشاب الناعم، مثل عتاة السفاحين والمجرمين في صورهم الكلاسيكية ولنا في وداعة تشاكي الخارجية نموذجًا؛ تذكّرنا بأساطين السياسة الاستعمارية الذين دمّروا بلدًا اسمه فلسطين، وسعوا إلى إلغائه من الواقع والذاكرة على السواء، وعلى رأس هؤلاء آرثر جيمس بلفور الذي لم يعد يذكره التاريخ إلا عبر وعده الشهير، وكأنه ما جاء إلا لأجل إنجازه، لكنّ ذلك ليس صحيحًا تمامًا، فالوعد ليس سوى نتيجة لمقدمات غربيّة طويلة، أوروبية أولًا وأمريكية ثانيًّا، ولو لم يأت هذا الرجل ويقدّم ذلك الوعد لجاء غيره في الوقت والظرف نفسهما، لأنّ الغرب لم يتخلَ يومًا عن النظر إلى فلسطين نظرة مزدوجة، يهودية تراها أرضًا لميعاد الله لشعبه في جانب منها، ومسيحية تؤمن بمجيء المسيح الثاني في الجانب الآخر.
بُنيت أمريكا على أساس توراتي. قُتل سكّانها الأصليون على أيدي المهاجرين الأوروبيين البيض كما قُتل الكنعانيون على أيدي العبرانيين. ذلك هو السيناريو الذي آمن به ونفّذه صنّاع أكبر مجزرة في التاريخ البشري. المهاجرون الأوروبيون الأوائل أسّسوا "إسرائيل الله الأمريكية". وتبعًا لذلك لم تكن أمريكا سوى تنفيذ لخطة إلهية. ولنا أن نتخيل كم سيكون من حملوا هذا الميراث مستعدين لدعم إقامة إسرائيل الله في مكانها!
بسبب ذلك بوسع بلفور، كما بوسع كوشنر اليوم، إنكار وجود الشعب الفلسطيني، والاكتفاء بتسميته في رسالته الشهيرة إلى اللورد روتشليد "الجاليات غير اليهودية القائمة"، مع أن هذه الجاليات كانت تمثّل 90 % من السكّان، فيما الـ10 % من اليهود فنصفهم من القادمين الجدد وقتها.
لا نأتي بجديد حين نقول إن كوشنر جزء من منظومة الفساد التي بناها وأدارها ترامب، حينما منح العائلة والأصدقاء سلطاتٍ سياسيةً إلى جوار مهامهم في شبكات أعماله العقارية وغيرها. وعن هذا التوجّه الراسخ في هذه الإدارة هناك تصريح لكوشنر في بدايات العهد الترامبيّ يعبّر عن صميمية ذلك: "يجب أن تُدار الحكومة مثل شركة أمريكية عظيمة".
لا شك في أن كل أعضاء هذه الجوقة، ومنهم بالطبع وزير مستعمرات كوشنر، يَرَون مواطنيْ بلدهم زبائن لدى إدارتهم، بدلًا من أن يروهم مُلاّكًا للمكان وللكيان السياسي على السواء، وما سياسيون من أمثالهم غير عمّال لحساب المواطنين والكيان الذي ينضوون تحت لوائه.
لا نأتي بجديد حين نقول إن كوشنر جزء من منظومة الفساد التي بناها وأدارها ترامب، حينما منح العائلة والأصدقاء سلطاتٍ سياسيةً إلى جوار مهامهم في شبكات أعماله
نزاهة وزير المستعمرات الأمريكية، أو الدمية القاتلة الحية، محلّ شكّ على طول الخط. فدراسته الجامعية حصل عليها بسبب رشاوي والده أصلًا، إذ اتخذت، بحسب تقارير صحافية، شكلَ تبرّع بمبلغ 2.5 مليون دولار لجامعة هارفارد، ولا يفوت فطينًا أن ذلك من أجل تعزيز فرص قبول ابنه.
اقرأ/ي أيضًا: تقدير موقف: سيناريوهات إقالة ترامب ومستقبل الحزب الجمهوري
بالطبع سيغدو مفهومًا أن شخصًا مثله حين يلتقي داخل مكتبه في البيت الأبيض، في آذار/مارس 2018، بكبار مدراء الشركتين الماليتين "أبولو" و"سيتي غروب"، أن تقوم كل من الشركتين بإقراض ملايين الدولارات لأعمال عائلته.
يُضاف إلى ذلك ما ذكرتُه تقارير صحفية من أن ملك الفساد المجنون، ترامب، انزعج من صهره ووزير مستعمراته جدًّا، لأن أخت الأخير قامت بالترويج أمام المستثمرين في الصين أنها ستُسهّل أعمالهم في إشارة إلى علاقتها بالبيت الأبيض.
ضمن هذا يمكن أن نفهم كيف أنّ هذا الشاب تنطّع لإدارة عدة ملفات هامة، فبالإضافة إلى ملف السلام في الشرق الأوسط تحمل مسؤولية إدارة العلاقات مع المكسيك والصين وغيرها الكثير.. الأمر يعني شيئًا واحدًا أنه أراد الوقوف على كل ما يمثّل القوة الأمريكية.
في ما يخص دور كوشنر على صعيد القضية الفلسطينية، فالملاحظ أنه على الرغم من ميل الولايات الأمريكية المتحدة الدائم والمطلق لإسرائيل، وحمايتها من القرارات الدولية، إلا أنها عملت مرارًا على ضبط الميول الإسرائيلية على مستوى بناء المستوطنات والضم من أجل تحقيق حل الدولتين، لكنّ كوشنر، باسم مولاه ترامب طبعًا، غيّر هذا المسار كليًّا عبر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، والاعتراف بضم مرتفعات الجولان السورية، بعد ازدراء الفلسطينيين، وإغلاق بعثتهم الدبلوماسية في واشطن، وقطع المساعدات المالية عن كل من السلطة الفلسطينية ووكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وطبعًا مع وضع كل ما سبق إلى جوار قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل (يهودية الدولة) الذي أُقرّ في 2018، نُدرك أن وعد بلفور تحقّق كليًا.
الآن وهم يفتحون ملفات وقرارات ترامب، يظل موضوع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، إلى جوار وجبات السلام السريعة، المطبوخة مع أنظمة لا تخوض عمليًّا أي صراع مع دولة الاحتلال.. كلها أمور لن يقترب منها أحد، فبالنسبة لهم هذه واحدة من أشياء قليلة أصاب فيها ترامب، أو أنها كانت تحتاج إليه شخصيًا لكي يجعلها واقعية، أو أنها، ويالفداحة الأسى، لا تهمهم!
حين يقع الفأس برأس كوشنر فإنه يقع ضمنًا على رأس سلفه الكبير اللورد آرثر جيمس بلفور. لعلنا لا نحتاج إلى عدالة أكثر مما في هذا المجاز
لأجل هذا بمقدار ما أتمنى سوء العاقبة وبئس المصير لترامب، أتمناه أيضًا، وبالمقدار نفسه، لصهره جاريد كوشنر. ومع أنني واثق من أنه ما من شيء يمكن أن يسمى عدالة ما دام من يحاربون ميراث الملك المجنون يتجاهلون فرضه السلام، بالقوة والتهديد والابتزاز والرشاوي، على دول عديدة، يحكمها في الغالب مغتصبو سلطة.
اقرأ/ي أيضًا: قلب إيفانكا المحطم... ماذا عن قلوبكن؟
كوشنر يجب أن يُعاقب مثل ترامب تمامًا. يجب أن يعاقب على فساده وسوء استعماله للسلطة، ولا نطالب بعقابه أكثر مما يمكن أن يحدث له على المستوى الداخلي في أمريكا، لأن ذلك يقول لكل الأذكياء شيئًا واحدًا: هذا الفاسد الفاقد للنزاهة الأخلاقية والمتعصب الأعمى صنع صفقة فاسدة.
حين يقع الفأس برأس كوشنر فإنه يقع ضمنًا على رأس سلفه الكبير اللورد آرثر جيمس بلفور. لعلنا لا نحتاج إلى عدالة أكثر مما في هذا المجاز.
اقرأ/ي أيضًا: