احتفلت الولايات المتحدة الأمريكية بما يعرف بـ"يوم كولومبوس"، وهو ذكرى وصول كريستوفر كولومبوس للمرة الأولى إلى سواحل القارة الأمريكية، حيث مرت هذا العام الذكرى 526 لهذا الوصول، الذي تسميه بعض المصادر بـ"الاكتشاف"، وسط تصاعد الاحتجاجات ضد الاحتفال بالمناسبة بين الأمريكيين.
يعد "يوم كولومبوس" الأكثر إثارة للخلاف بين الأعياد الرسمية الأمريكية، لأن كثيرًا من الأمريكيين يرون كولومبس "من ملوك الشر"
ويُقام الاحتفال منذ أعلنه الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في ثلاثينات القرن الماضي، في الـ12 من تشرين الأول/أكتوبر كل عام، عيدًا أمريكيًا رسميًا، تُعطّل خلاله كل المؤسسات الفدرالية الأميركية، ويترأّسه رجل يلبس الملابس الخاصة بالبحار كولومبوس، وتصحبه الموسيقى والخيول والأعلام.
اقرأ/ي أيضًا: هل كانت الولايات المتحدة في أي وقت مضى دولة "عظيمة"؟
وتمثل المناسبة إحدى أكبر المحطات في التاريخ البشري، وكانت إيذانًا بظهور أوروبا الحديثة، وقيام إمبراطورياتها الاستعمارية التي استمرت لقرون. لكن المحتجين يعتبرون كولومبوس "مجرمًا غازيًا"، بدأ اثنين من أفظع الجرائم في تاريخ نصف الكرة الغربي: تجارة الرقيق عبر الأطلسي، والإبادة الجماعية للهنود الحمر في أمريكا.
ويًعد "يوم كولومبوس" الأكثر إثارة للخلاف بين جميع الأعياد الفيدرالية الأميركية، فقد أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب استمرار الولايات المتحدة بالاحتفال بكولومبوس، واعتباره "رمزًا وطنيًا أميركيًا"، وكتب هذا العام، أن "روح العزيمة والمغامرة لكريستوفر كولومبوس كانت مصدر إلهام لأجيال من الأميركيين"، في حين يرى الجيل الجديد من الأميركيين، أن كولومبوس كان "أقل شخصية تاريخية بطولية، وملكًا من ملوك الشر"، حيث جلب المرض والحروب ليبني في نهاية المطاف الولايات المتحدة الوحشية ضد الأمريكيين الأصليين.
وتصاعدت الأصوات الأمريكية التي تدين كولومبوس والاحتفاء بذكرى وصوله للقارة الأمريكية، كونه تسبب في إبادة جماعية للشعب الأمريكي الأصلي، واستعبد منهم الكثير، من الأفارقة.
ويصل تعداد الذين اُستعبدوا ونقلوا للقارة الأمريكية بعد وصول كولومبوس غلى نحو 12 مليون شخص في بعض الإحصائيات. ويُعتقد أن نسبة المفقودين في الشحنة الواحدة للمستعبدين، تصل إلى 50%، أي أن هناك قرابة 12 مليون أفريقي آخرين قضوا في الطريق إلى القارة الأمريكية.
محاكمة كولومبوس
وتصاعدت على المستوى الشعبي المطالبات بإزالة التماثيل التي تمجّد كولومبوس، وإجراء محاكمة تاريخية بسبب عمليات الإبادة ونقل السكان الأفارقة من المستعمرات الأفريقية وبيعهم كعبيد، وهي الحملة التي أثارت غضب الجالية الإيطالية فهي تدافع عن الإرث الإيطالي في التاريخ الأميركي، كونهم يعتبرون كولومبوس رحالة إيطالي. وهي تؤكد أنه "لا يمكن محاكمة كولمبوس الذي عاش قبل القرن الـ15 بمعايير القرن الواحد والعشرين".
وشهدت مدينة لوس أنجلوس، مؤخرًا، إزالة تمثال من البرونز لكولومبوس من وسط حديقة المدينة الأمريكية "غراند بارك"، وسط هتافات وتصفيق حوالى 200 شخص، بعد 45 سنة من رفعه هناك، حيث أهداه اتحاد نقابات جنوب كاليفورنيا إلى إدارة الإقليم سنة 1973.
وفي صباح يوم 30 آب/أغسطس 2017، عُثر على تمثال كريستوفر كولومبس البرونزي مقطوع الرأس في منتزه يونكرز شمال نيويورك، ولم تكن الحادثة الأولى التي يتعرض فيها تمثال لكولومبوس لهذا النوع من الممارسات التي تُظهر الاعتراض على الاحتفاء به وتخصيص يومٍ لإحياء ذكرى وصوله.
شهدت السنوات الأخيرة تحطيم عدة تماثيل لكولومبوس في أنحاء الولايات المتحدة وعدة دول أخرى، وتلطيخها باللون الأحمر رمزية على دمويته. وعلى إثر هذه الأعمال، أعلن عمدة نيويورك عام 2017، عن بدء مراجعة للرموز المثيرة للجدل والتي تزين تماثيلها الأماكن العامة في المدينة.
"نهاية مخزية"!
لا يعرف على وجه الدقة أصل كولومبوس، وإن كان المرجح أنه إيطالي. وتوفي كولومبوس في بيادوليد أو بلد الوليد في إسبانيا، بالسكتة القلبية، فقيرًا لم يكمل مشروعه بعد. وحتى وفاته، كان يظن أنه اكتشف أرض الهند من طريق جديد، وقد ظلت جوانب كثير من حياة البحار الشهير مجهولة.
وكشفت وثيقة غير منشورة في الأرشيف العام في بيادوليد أو بلد الوليد، عن إقامة محاكمة لكولومبوس في عام 1500، وعلى إثرها جُرد من ألقابه البحرية.
وتُظهر الوثيقة أن المحاكمة جرت بسبب أنه عرض رجاله للخطر لمّا لم يعدل في توزيع الغذاء بينهم. كما أنها جرت بسبب ما فعله في الأرض المكتشفة. ولقد تضمنت الوثيقة على شهادات بعض السكان الأصليين، وكذا مرافقين لكولومبوس في رحلته، من بينهم أخويه دييغو وبارتوميلو.
واعتبر باحثون، بينهم المؤرخة كونسويلو فاريلا التي كانت مسؤولة عن دراسة الوثيقة، أن هذه الوثيقة تشتمل على ما يؤكد حقيقة كولومبوس وما تسبب فيه من مأساة للسكان الأصليين، بل ومن رافقوه في رحلته.
في أعقاب هذه العودة المهينة إلى إسبانيا، كتب كولومبوس "كتاب النبوءات"، الذي يتأمل فيه الأهمية الكونية والغاية الإلهية من رحلاته. وبرأي المؤرخ وكاتب سيرة كولومبوس، كيكباتريك سيل، فإن "كتاب النبوءات" هو "مزيج فوضوي من الوثائق بمقدمة غير متماسكة"، وأنه قوبل من معظم كتاب سيرة كولومبوس باعتباره "إحراجاً كاملاً". وقد اختاروا، في جزئهم الأكبر، نسيانه أو غفرانه باعتباره نتاجاً لـ"هلوسة عقلية" أو "ذهول مؤقت مظلم وبائس".
تحطم الأسطورة
ويقول ألبرتو إسكوفار مدير التراث في وزارة الثقافة بكولومبيا: "في السنوات الأولى بعد الاستقلال، أخبرونا عن قصص الرجال العظماء الذين جاءوا من أوروبا، لكن في الستينات والسبعينات ظهرت نظرة مختلفة أكثر تركيزًا تتهمهم بالإبادة الجماعية والقتل".
وفي مقالتها "كولومبوس.. رحل لكن لم يُنسَ"، تدعو الكاتبة بيل هوكس، الأمريكيين إلى إعادة النظر للتاريخ بمنهجية نقدية، تشتمل على إعادة التفكير في معنى "إرث كولومبوس".
وترى هوكس أن الطريقة التي يُقدم بها تاريخ كولومبوس، تلقي بظلالها على الوعي الأمريكي بطريقة تعيد التأكيد على الالتزام بالإمبريالية والاستعلاء الأبيض. وتؤكد هوكس أن التمجيد الثقافي لما يدعى اكتشاف كولومبوس، يعني "إضفاء الطابع الرومانسي على الظلم، والفساد، وحتى القتل والاغتصاب".
تغير اسم يوم كولومبوس في العديد من البلدان التي كانت تحتفي به، ليشير إلى "صمود السكان الأصليين" أو "احترام التنوع الثقافي"
هذا يرى ونشطاء وحركيون من الشعوب الأصلية، أن يوم كولومبوس، قد يكون فرصة مناسبة لإعادة طرح حقيقة كولومبوس، وتمسية أعماله الوحشية بمسمياتها.
وبالفعل تغير اسم يوم كولومبوس في العديد من البلدان التي كانت تحتفي به، ففي فنزويلا بات يسمى "يوم صمود السكان الأصليين" منذ عام 2002، وفي الأرجنتين أصبح يسمى "يوم احترام التنوع الثقافي"، وتسميه بوليفيا "يوم إنهاء الاستعمار"، والإكوادور بـ"يوم تنوع الثقافات"، وتشيلي "يوم اللقاء بين عالمين".
كما قررت مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، تغيير اسم يوم كولومبوس، إلى "يوم الشعوب الأصلية"، لتكون أكبر مدينة أمريكية تجري هذا التغيير، رغمًا عن احتفاء ترامب بكولومبوس ويومه.
اقرأ/ي أيضًا:
في اليوم العالمي للسكان الأصليين: تقاليد وطقوس زاهية تخفي الجوع والفقر