لطالما اتخذت طريقتها في العيش شكلًا من العنف الموجّه ضدّ الحياة، بسبب قوّة الموت التي تحملها، ففي داخل تلك المرأة الكاسرة استطاع الموت التكلّم، كما استطاع اتخاذ القرارات نيابةً عنها.
هذا المنطق يفضي إلى قراءة الشعر الذي كتبته بوصفه ترجمةً لأفكارٍ أملاها الموت، أو أوحى بها، وفي أحيانٍ كثيرةٍ نطق بها مستعملًا لسانها وأصابعها.. ودموعنا.
شاعرةٌ دون ديوان أمرٌ يعني، أيضًا، أنها رسمتْ استراتيجيتها الخاصة التي تقوم على ترك قصائدها لمن يؤمنون بالشِّعر
يالها من غرابة لا تُفسَّر حين ترحل وتضعنا في مقام الحديث عنها شاعرةً لم تنشرْ كتابًا! فكوليت أبو حسين بإصرارها على ذلك، أي الكونُ شاعرةً دون ديوان، كأنما أماتت الشعر الذي كتبته. مثلها مثلُ أمٍّ يداهمها المخاض في بريّةٍ فتضع مولودها كيفما اتفق، ثم تقطع حبله السريّ بأقرب حجرٍ إلى يدها وتمضي، وعلى ذلك الوليد التحدّي، عليه السعي إلى الولادة من تلقاء نفسه، فالولادة الثانية هي الجدارةُ في انتزاعٍ شخصيٍّ لحقّ الوجود رغمًا عن الموت.
اقرأ/ي أيضًا: رحيل الشاعرة كوليت أبو حسين: سرتُ بلا اسم
الولادة الثانية رسالةٌ سريةٌ تتوزّع شيفراتها بين السطور المنثورة أمامنا، ولن نفكّر بغير استحالة حلّها، لنعود ونعْدِل مع موتها الذي لا يأتي إلا جوابًا فصيحًا يتصل بسيرتها الشخصية، الملأى بأصوات الفقدان والموت واليُتم وأصدائهما، ما يجعل رحلتها الخاطفة في الشعر والحياة رسالةً أخرى؛ أنا من جئتُ من موت أهلي بولادةٍ ثانية صنعتها بنفسي، وما ذلك إلا فضولٌ وحسب.
شاعرةٌ دون ديوان على خلفية مشهدٍ يتكاثر فيه الشعراء والشاعرات البلا شعر رغم الدواوين المطبوعة، أو البلا طباعةٍ ولا شعرٍ مع الاصرار على ادعائه؛ تقول ها إنني أحضر مجرّدةً من البروتوكولات اللازمة للحضور المألوف، لأتطاول على فعل الكتابة نفسه فأغدو لا كتابيّة، ولكم أن تنظروا إلى العميق في هذا، إلى الشعوب القديمة التي وصمناها باللاكتابيّة مع أنها كتبتْ بطريقة أخرى، بسلاحها، بصيدها، بخوفها من الظلام غير المفهوم، وحيرتها أمام أوّل نارٍ مفهومةٍ، هكذا سيكون عليكم، يا أبناءَ عصور الكتابة، أن تروا بدءَ لغاتكم من أفعال الحياة وهواجسها، ومجيءَ أبجدياتكم ذكاءً متأنيًّا من فكفكة أسرار العصور كلها.
شاعرةٌ دون ديوان أمرٌ يعني، أيضًا، أنها رسمتْ استراتيجيتها الخاصة التي تقوم على ترك قصائدها لمن يؤمنون بالشِّعر، فيجمعونها من فم الموت رافضين أو يتركونها فيه راضين، وبذلك تضع ما كتبته، مثل تلك الأمّ في البرية أمام تحدٍّ قاس، هو الولادة الثانية إن كانت جديرةً بها.
لهذا انشغلت كوليت بنشر الآخرين موقنةً، اليقينَ كله، في كونها تؤدي واجبها وحصتها في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نصوص آخرين، قبل أن توشك أسنان الموت على طحنها، لعل أولئك يؤدون الواجب ذاته معها حين يعطيهم موتها الإيعاز.
الشاعرة التي عرفتها، كتبتْ حكايتها مرارًا في قصائدها، مستعيرةً من أزمة تمزّق روحها حبكتها المفضّلة. فهي ولدت لأمّ كبيرة في السنّ، ومات أبوها فيما لا تزال بعد في عامها الأول، لتلحقه الأمّ المسنّة في أمسّ الأوقات حاجةً إليها، في مراهقتها.
الموت هو الصورة. الموتى هم المشهد. تلك صرخة القصائد التي كتبتها معيدةً حكايتها التأسيسيّة عن أهلٍ يموتون بمرض متوارث، نجت منه في المرة الأولى حين تهدّدتْ صحةُ الأم أثناء الحمل، لكنها بعد الولادة الأولى حملت داخلها سرَّ العائلة الأكبر، جينومَ الموت. "وأنا أنطّ على درجات الثلاثين، تسقط حقيبة أدويتي؛ شريطٌ للسُّكر وآخر للضغط، مميّعٌ للدم وآخر مهدِّئ للأعصاب، أسبرين للقلب ومضادات للاكتئاب وخوف الموت، واقٍ من الخثراتِ وآخر لأنزيمٍ في الكبد. معدتي ممتلئة بالحبوب الصغيرة وقلبي فارغ. وأنا أتدحرج على درجات الثلاثين.. كان يجب أن يكون في حقيبتي قلم كحل أسود فقط، قنينة عطر، ومسكّن للصداع أيضًا".
مثلما يمتلك الموت لغة سهلة وأفكارًا عصية، امتلكت كوليت لغة سهلة ومعنى عسيرًا، شكلًا بسيطًا ومضمونًا جارحًا. لم تخضْ مغامرةً فنيةً لأنّ المغامرة التي نذرت لها نفسها كمنت في التجربة، أولًا وأخيرًا، تجربةِ الموت والعيش فيه ومعه، وبالتالي قوله لمامًا، ومرارًا، بأشكالٍ تواريه كشيفرةٍ بين السطور، ليكون علينا الآن أن نجمعه كالآثاريين جمعَ ألواحٍ مدفونةٍ تحت طبقات الأرض. ألا يعمل الآثاريون عملَ القابلات؟ أليست اللُقى ولاداتٌ؟ ما يؤكّد زعمي هوسُها بالبوم، ذلك الطائر الذي لبسته في أساور وحلق وقلائد، وكثيرًا ما وضعته صورةً شخصيةً على فيسبوكها، والأهم أنها حاكته دون أن تدير في الشكل الذي اتخذته عيونها. البومةُ رمز الحكمة عند قدماء اليونان. يقولون إن من يضعها على صدره سيضاهي هرقل وهو يقوم بمهماته الأسطورية، السائرة بالقرب من الوقوع في فم الموت، بمساعدة مينرفا، ربّة الحكمة، المرموز إليها ببومة كذلك.
انطلق الشِّعر من حاجة البشر إلى حكمةٍ تجعل علاقتهم مع الأشياء والأحوال والأهوال تتحوّل إلى عباراتٍ طيّعة للفهم وقابلة للترديد
إذًا، ما كان ذلك العبث إلّا حكمةً، وما كانت تلك الرعونة، في السلوك الطائش والعنيف وازدراء الكتابة، إلا وقوفًا صلبًا على أرض المعنى التي اختارتها. ما يعني أنّ شعرها انطلق، من حيث انطلق الشِّعر أساسًا، من حاجة البشر إلى حكمةٍ تجعل علاقتهم مع الأشياء والأحوال والأهوال تتحوّل إلى عباراتٍ طيّعة للفهم، وقابلة للترديد والتداول، هذه الحكمة لا توجد، بطبيعة الحال، سوى في تلك الحدود القصيّة التي يشيّدها صراع الحياة والموت، حيث كانت، حيث عاشت، حيث عادت.
اقرأ/ي أيضًا: 5 شاعرات من رومانيا
في مزحةٍ ثقيلة، أَلْمحتْ إلى أنّني يجب أن أرثيها، ما يوحي أنَّ وثوقها من موتها لم يوازه وثوقٌ من حصولها على مراثٍ من الأصدقاء والقريبين. يظنّ المؤمنون بالموت، كما المصابين بفجائعه، الرثاءَ يمنحهم القدرة على زيارة الحياة من خلال دموع التفجّع وكلمات الندب ورقصات النهاية. ويظنون الرثاءَ يجعلهم حاضرين مع الأحياء في الجزء الميّت منهم، ويجعل الأحياء حاضرين في الجزء الحي منهم. ذلك صحيحٌ إلى حدّ بعيد بالنسبة لمن يؤمنون بالشعر والأساطير والأديان، أقانيم الأبدية الوحيدةُ المتاحةُ أمام الإنسان؛ لولا أنّ الوقت الآن ذهبيٌّ لوضع نصوصها في المواجهة التي اشتهتها؛ اجتراحُ الشّعر ولادةً ثانية.
اقرأ/ي أيضًا: