يعرف القاصي والدّاني في المعمورة كلّها، أنّ فرنسا تبذل جهودًا وأموالًا من خلال منظمة الفرانكفونية العالمية وقنوات أخرى، لأجل أن تبقي على امتدادها الثقافي والسّياسي والاقتصادي، في كثير من دول العالم، بخاصّة تلك التي كانت في حوزتها المباشرة، لكنّها لا تبذل جهدًا أو مالًا لتحافظ على امتدادها في المشهد الجزائري، لأنه يوفّر لها ذلك تطوّعًا وعفويًا، من غير أيّ مقابل يُذكر، حتى أنّ الجزائر ليست عضوًا في منظمة الفرانكفونية العالمية، بما يحرمها من مساهمة مالية معتبرة تقدّمها باريس للدّول المشمولة بالعضوية.
كل رؤساء ومسؤولي الدول يستعملون لغتهم الرسمية في المحافل الدولية، إلا الجزائريين يستعملون الفرنسية
كلّ رؤساء وأمراء وملوك ووزراء الدّول يستعملون لغتهم الرّسمية، في المحافل الدّولية، وأثناء زياراتهم الرّسمية، ما عدا الرّسميين الجزائريين، فهم يستعملون اللغة الفرنسية، ضاربين بذلك المادّة الثانية من الدّستور عرض الحائط، والأكثر من ذلك أنهم يستعملونها لمخاطبة مواطنيهم، وهو ما دفع بمعظم الدّول التي تتعامل مع الجزائر دبلوماسيًا، إلى أن أن تختار سفراء يحسنون اللغة الفرنسية لا العربية، وهي إشارة قوية على التبعية الثقافية واللغوية والسّياسية لمستعمر الأمس.
اقرأ/ي أيضًا: ذاكرة الجزائر الجمعية.. "الحركي" بعيد عن الغفران
هنا تطرح هذه الأسئلة نفسها: لماذا لا يُقلّد الرسميون الجزائريون الفرنسيين في الأمور الجميلة، ما داموا معجبين بكلّ ما هو فرنسي؟ علمًا أنّ فرنسا، بعيدًا عن ماضيها الاستعماري الأسود بخاصّة في الجزائر، من أعمق الفضاءات الغربية حضارةً وثقافةً وفنًّا وديمقراطية.
مثلًا، لماذا أقدم الرّئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة على تعديل الدّستور ليجعل عهداته مفتوحة، ولم يسمح لغيره بأن يتولّى الحكم ديمقراطيًا مثلما فعل فرانسوا هولوند؟ حتى بات راسخًا في أذهان الجزائريين أن الرّجل مستعصِ على الرّحيل، ومن تجليات ذلك في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ما يتداوله الشباب ساخرين: "بعد صراع مع بوتفليقة المرض يموت".
ما معنى أن يُسمح لشابّ في التاسعة والثلاثين بأن يصبح رئيسًا في فرنسا، في حين يعاني من هو في سنّه من البطالة أصلًا في الجزائر؟ هنا يستوجب السّياق الإشارة إلى أنّ معدّل عمر الشخصيات الأربع الأولى في الجزائر 77 عامًا.
لماذا تملك فرنسا دخولًا ثقافيًا محترمًا، على غرار الدّخول الاجتماعي، بعد نهاية العطلة الصّيفية، وتملك متاحف ومسارح ومكتبات ومطاعمَ وجامعات وحدائقَ ومنتجعات وجرائد وقنوات إذاعية وتلفزية، بالمعايير الدّولية، في مقابل غياب ذلك في الجزائر؟
لماذا تصدّر فرنسا منتجاتٍ فلاحية إلى الخارج، منها ستة ملايين طنّ من القمح للجزائر سنويًا، رغم أن مساحتها لا تتجاوز سدس مساحة الجزائر؟ علمًا أن ميزانية وزارات الفلاحة والبيئة والصّيد البحري والتنمية الرّيفية، تفوق ميزانية دول السّاحل الأفريقي مجتمعة؟
لماذا تستقبل فرنسا من السّواح سنويًا، ما يقترب من عدد سكّانها، وتوفّر لهم من المتع والمباهج والمعارف والخدمات، ما يقتضيه الفعل السّياحي، رغم التشويش الأمني الذي تعانيه منذ ثلاث سنوات، في حين لا يتجاوز عدد السوّاح في الجزائر عدد عمّال وزارة السّياحة والصّناعات التقليدية؟
يخاطر الشاب الجزائري بروحه في البحر هربًا من الواقع المرير في بلاده، ولسان حاله: "يأكلني الحوت ولا يأكلني الدود"
ما معنى أن الشابّ الجزائري كان في العهد الاستعماري، يهاجر إلى فرنسا للعمل والعودة إلى البلاد بالمال، في حين بات شباب الاستقلال الوطني، يخاطرون بأرواحهم في البحر، ليهربوا من واقع جزائر مرير، شعارهم في ذلك "يأكلني الحوت ولا يأكلني الدّود"؟
اقرأ/ي أيضًا: البطالة تدفع شباب الجزائر إلى الصحراء
إنّ الأسئلة الشبيهة التي تقتضيها هذه المقارنة لا نهاية لها، وهي كلّها تدفع المواطن الجزائري إلى اليأس من حاضره والخوف من مستقبله والتبرّم من ماضيه الثّوري، الذي يتخذ منه النظام الحاكم منصّةً يستمدّ منها شرعيته، من غير أن يكون في مستواه، وفي مستوى الأهداف التي مات من أجلها عدد من الشّهداء، يفوق عدد بعض الشعوب العضوة في "هيئة الأمم المتحدة". إذ ما معنى أن يطلق هذا النظام أسماء الشّهداء على المدارس والشّوارع والمطارات، ويخون أهدافهم في الواقع؟
اقرأ/ي أيضًا: