بعد 11 شهرًا من القتال انتهت الحرب بهزيمة الجيوش العربية، وأُعلن عن قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، وعلى أثر ذلك تشتت الفلسطينيون وصُدم أهلُ الشرق. وعلى واقع الهزيمة فشل تقرير المخابرات الأمريكية الذي تحدث عن عواقب إعلان اليهود دولتهم، زاعمًا أن العرب سينتصرون عليهم في غضون عامين، لكن خيبة الأمل استمرت لـ70 عامًا، ووقعت على رؤوس العرب عامة والفلسطينيين خاصة، ولهذا لم يكن أمام العرب للتملص من هزيمة عام 1948، سوى أن يطلقوا عليها مصطلح "النكبة" اختزالاً لما حدث ما يوافق اليوم 15 أيار/مايو 1948، دون العودة إلى الأسباب التي حالت دون تحقيق انتصار على الصهيونية.
تملّص العرب من هزيمة 1948 وسموها "نكبة" دون أن يعودوا للأسباب التي حالت دون الانتصار
ويختزل الانتكاب التوصيف الشامل لحجم الأذى الذي وقع على الشعب الفلسطيني، لكن في تسمية حجم الأذى بالنكبة، تجهيل لفاعلين معلومين، وكأنها من صنف الأعاصير، التي لا يُشكى صانعوها، ولا يلاحَقون، لذلك حاول الساسة العرب نفي الحقائق عن يوم النكبة، وأوّلو على لسان أشخاص تم نسجهم من واقع الهزيمة، أن هناك مؤامرات وحركات كانت تسعى لإحباط انتصارنا على الاحتلال، وتحول دون تقدمنا وتطورنا، وأن العدو لديه من العدة والعتاد ما لا يعد، ولا نريد التورط في حرب لا يحمد عقباها!
الأسطورة "كامبل" والمؤامرة الكونية التي لا تنتهي
لن أدخل هنا في تفاصيل المؤامرات الكونية التي تحاك داخل المؤسسة الأكثر شهرة في وطننا العربي، ألا وهي "الماسونية"، وطبيعة مؤامراتها على مقدرات الوطن العربي وعلى فلسطين بوجه الخصوص! فلا حدود لإبداع التلقين في المعاهد والمؤسسات التعليمة العربية، فمنذ اليوم الأول لأي طالب منبهر بتطور وحضارة الغرب، يُلقَّن أن الشرق العربي يتعرض يوميًا لمؤامرات من الغرب "اللعين" أو "الكافر".
اقرأ/ي أيضًا: صناع النكبة الفلسطينيون
وأنا حالي كحال الطلبة الذين تقيؤوا عند الكبر كل أكاذيب المؤامرات الخيالية كتقرير "كامبل بنرمان" الذي عُقِد في الهند عام 1907، بأجواء سريّة، وبحضور رئيس الوزراء البريطاني هنري كامبل بنرمان، والذي ذكرته كتب مدرسية قومية، ونخب عربية سياسية وثقافية، تعتمد عليه للحظة، كمرجع علمي عندما تتحدث عن ضياع فلسطين!
جاء الكشف عن هذا التقرير في نهاية الأربعينيات، أي بعدما تحول وعد بلفور لليهود إلى الكيان الإسرائيلي في عام 1948، ثم انتشر بشكل غريب في الأدبيات العربية، وبخاصة القومية، بعد أن روجت له النخبة السياسية العربية في كتاباتها وندواتها ومذكراتها، حتى أصبح يُشار إليه "تقرير كامبل بنرمان"، على اسم رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ليستخدم دليلًا لا شية فيه على دور بريطانيا في خلق إسرائيل، ويغطي في المقابل مسؤولية القيادات العربية عمّا حدث من هزيمة في 1948. يقول جوزيف جوبلز وزير الدعاية الألمانية لمصلحة النازية وأدولف هتلر: "اكذب، اكذب، ثم اكذب، حتى يصدقك الناس"!
أنيس صايغ الكاتب والباحث والمفكر العربي، وبعد أن أصبح في 1966 مديرًا لمركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، وجد أن كل كاتب يعتمد على غيره في ذكر هذا التقرير المزعوم دون ذكرٍ لمصدر أصلي له. فقرر صايغ أن يذهب بنفسه إلى لندن للبحث في الأرشيفات والدراسات في جامعة كامبردج حيث درس كامبل بنرمان، وأودع كل أوراقه الشخصية بما في ذلك رسائله الغرامية. ومع أنه وجد الكثير من الوثائق عن المؤتمر الذي عقد في الهند عام 1907، إلا أنه لم يجد شيئًا يدعم وجود التقرير المزعوم.
كل من ذكر تقرير "كامبل بنرمان" المزعوم، اعتمد على غيره من الكتاب، دون ذكرٍ لمصدر أصلي له
راجع الصايغ أيضًا جُل أعداد صحيفة التايمز، التي واكبت تلك الفترة، أي فترة المؤتمر المذكور، فوجد فيها الكثير عن المؤتمر وقراراته وبياناته، دون أي ذكرٍ أو إشارة للتقرير المزعوم. وبحث كذلك عن أول من تحدث عن التقرير، فبعد عودته إلى مركز الأبحاث في بيروت، اكتشف أن أول ذكرٍ للتقرير ورد في كتاب للمحامي الفلسطيني أنطون كنعان، الذي غادر فلسطين واستقر في القاهرة. فذهب إليه ووجده على قيد الحياة، وأجابه أن لا وجود للتقرير، ولا لمصدر عن هذا التقرير.
اقرأ/ي أيضًا: أركيولوجيّة النكبة
وأوضح له كنعان أن التقرير كان نتيجة صدفة جمعته في الطائرة حين كان مسافرًا إلى لندن لدراسة القانون مع راكب هندي، حيث انطلق الحديث بينهما لتمضية الوقت. فقد ذكر له كنعان كيف تآمرت بريطانيا على العرب، وأصدرت وعد بلفور في 1917، وهنا ذكر له محدثه الهندي أنه قرأ شيئًا عن مؤتمر بريطاني عقد في الهند عام 1907، وناقش مصير المنطقة العربية ومنع وحدتها بإقامة دولة يهودية، رغم ذلك ما زالت النخبة السياسية تعتمد في تحليلها للواقع على تقرير مزعوم لا أصل له، ولعل السبب في كونه يسهل عليهم تفسير النكبة بإلقاء كل اللوم على المؤامرة الخارجية، دون نظر إلى العوامل الداخلية، وعلى هذا المنوال تفسر كثير من الأحداث.
اقرأ/ي أيضًا: