"كأي صعيدي لا أستطيع قول: أحبك.. وكلما قررت القفز على التقاليد لأقولها خرجت: كيف حالك؟.. فاعذريني لأنني (كيف حالك جدًا)".. ليست جملة شعرية، إنما أسلوب في التصريح بالحب خرج من على فيسبوك، حيث صاغها الشاعر المصري سيد العديسي لأول مرة، وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي أوساط الشباب، حتى وجدت مكانها على أحد الجدران. لم يكتفِ العديسي بانتشار جملته، الذي بدا مريبًا لأول مرة لكنها كانت خاطفة لا تعبّر عنه وعن أي صعيدي فقط، إنما عن كل قصص الحب التي تنبت وتنمو ببطء، وتعاني لعنة الفريندزون أحيانًا، فحوَّلها إلى عنوان لديوانه الجديد، "كيف حالك جدًا" الذي صدر مؤخرًا في معرض القاهرة الدولي للكتاب، عن دار "دوّن" للنشر والتوزيع.
احترف سيد العديسي شعر النثر منذ وقت بعيد تزامنًا مع عمله بالصحافة
اقرأ/ي أيضًا: أليف شافاك: هذا هو بطلي
يقدم العديسي ديوانه الجديد بإهداء إلى مجهول: "هل يحتمل هذا العالم/ لو قلت أحبك/ بكل ما في القلب من براكين؟". احترف العديسي شعر النثر منذ وقت بعيد تزامنًا مع عمله بالصحافة، وصدرت له عدّة دواوين أشهرها "يقف احترامًا لسيدة تمرّ"، ليأتي "كيف حالك جدًا" في لحظة يعتبرها اكتمالًا لتجربته الشعرية، فهو الصعيدي الذي يخاطب أنثى دائمًا، لكن عاداته تمنعه من أن يكون صريحًا، فيكتفي بالغزل العفيف.
وينقسم "كيف حالك جدًا" إلى قسميْن، الأول يبدأ بقصيدة "في وصف الحياة". لا يزيل العديسي الحرج عن نفسه، ويخاطب المجهولة، التي اعتاد أن يخاطبها، قائلًا:
"كل حبة رمل تطئينها
تعلو عن الأرض بمقدار
كل حجر تلمسينه يتحول لحجر كريم
رأفة بالطبيعة..
لا تسيري حافية
عيناكِ
سافلتان عندما تضحكان
قاتلتان حين تتلألآن بالدموع
قليلتا الأدب
تهربان خجلًا من عيني إلى الأرض
عيناكِ قطعتان من جهتم خُلقتا لعذابي
هل أخبرتك من قبل أن يومي ينتهي حين تغمضينهما لتنامي؟".
يتَّبع العديسي في لغته الشعرية أسلوب المفارقة، يتكلّم، يسأل، يضع علامة تعجب، ويردّ على نفسه.. بطول الديوان، يفعل ذلك، فلا يترك فرصة للخيال ليجيب، وبنظرة عاشقة في الانسحاق أمام حبيبته، التي لا ترد، يرسم بورتريهًا لقلة الأدب البريئة، والسفالة المقنّعة، اللذين يخالطان الوجه الجميل. يعرج إلى قصيدة "في وصف الحب":
"لا تحزني أني فقيرٌ
لله حكمة في ذلك
ربما أرسل إليك الفارس الآن
وغدًا
سيرسل الحصان.
لا تنشغلي بالبنات اللاتي يتمايلن أمامي
فمنذ عرفتك
صرن أخواتي في الرضاعة.
لن أعدك وأقول:
سأضحّي بروحي من أجلك
فأنا يا حبيبتي،
من أجل أن أصلَ إليكِ فقط
متُّ ثلاث مرات.
ولأن كل شغله في الحياة
أن يحبُّك
حين لا تكونين هنا
قلبي يصبح عاطلًا عن العمل".
خصَّص العديسي قسمه الأول للوصف، يجلد ظهر حبيبته، يعاقبها لأنها تبتعد، يترك مساحة "جفاء" بينه وبينها، تبدو في شعره، يضاجعها بقصائده بوحشية كأنه فوهرر نازي يحبّ الحياة، لكن محكوم عليه بالموت.. هذه آثار نفسية تغطي الديوان من الغلاف إلى الغلاف تقود الشاعر، العديسي، إلى وصف الغياب، الحاضر بطول الديوان، لأنّه يحدّث حبيبته، التي لا تظهر أبدًا.. يقول:
"اليوم الذي تغيبين فيه..
أكسر (جرّة) لأطفئ الغضب
-ذنب أهلي في رقبتك -
لو استمر غيابك لآخر الشهر
سيموت بيتنا من العطش
لأنك لستِ هنا..
فأنا لست على ما يرام
وهذا الصباح ينقصه الكثير
لذا أقول لهذا العالم: صباح الخير تقريبًا!".
وفي وصف القرى يؤكدّ أن "أبناء القرى كذكور النحل/ نبدد أعمارنا خلف الحبيبات/ وحين نصل إليهن/ نموت/ نخشى الوقوع في الحب/ كما تخشى القطط السقوط في الماء/ ولكن إذا أحببنا/ فإننا نبذل كل ما في وسعنا/ كي نغرق/ تبًا لهنّ نساء هذا النجع/ يلمنني على حبها/ وينسين أياديهن داخل الأفران حين تمر".
في ديوانه الشعري، ينتقل سيد العديسي من حالة الغياب إلى الحضور
اقرأ/ي أيضًا: ألكسندر ديوجين.. فيلسوف في حراسة الـ"آر.بي.جي"
ينتهي القسم الأول برسالة توبيخ إلى حبيبته، الجميلة، التي لا تحبه، ويظهر فيها اندماج الشاعر مع النصّ واستسلامه للتشاؤم بشكل لافت حتى يصبح الأمر غامضًا، هل يريد أن يبدو منكسرًا؟ أم إنه استسلم لسحر "أن تكون مظلومًا"؟ ويبدأ القسم الثاني بقصيدة "أتلفتها يدي من كثرة اللمس":
"يومي لا يبدأ إلا حين أنظر إليها
صورتك دائمًا معي
في أسفاري
في حقيبة العمل
أسفل الوسادة حين أنام
أهرب إليها كلما داهمني كابوس
أشكو إليها كلما زادت حمولي
أحملها مثل حجاب يقيني غدر الحياة
ما يحيّرني يا حبيبتي
أنه حتى وأنت نائمة في حضني
أغافلك لأنظر إلى صورتك".
ينتقل العديسي في قسميْ ديوانه من حالة الغياب إلى الحضور، ففي القسم الأول كانت حبيبته غائبة لا وجود لها ربما! لكنها في الثاني تنام في حضنه، ويستأنف رسائله إليها في "مذاقها بات مالحًا" وربما ذلك، تحديدًا، يبرز قدرة الشاعر على أن يكتب كل شيء، ويسرد الأبيض والأسود وبينهما لا شيء، ويقترب من جهنم ويشرب من العسل وينهل من النار:
"أتمنى لو أنني وسادة
تضعينها أسفل رأسك وقت النوم
وفوقه لإبعاد الضجيج
تحتضنينها حين يقرصك الشوق
وتشدين بها بطنك
حين يقرصك الجوع
وتقذفين بها أختك
عندما يستبد بك الغيظ
آه لو أني وسادتك
كنت تلقيت كل دموعك بفرحِ من ينهل الحياة".
كانت مناسبة هذه القصيدة لنهاية الديوان.. ربما! فهي "اختصار" لكل ما قاله ويريد أن يقوله البطل "المجهول" لحبيبته المجهولة أيضًا، لكن العديسى، لسبب ما، اختار أن يختتم قوله هذا بقصيدة "بعض الناس ستحتفل بذكرى لقائنا"، التي يخاطب فيها ربه بعدما يئس تقريبًا من الشعر.. والحياة:
"يا ربي
أنا أحبها.. وهي تحبني
فلماذا يغضب الناس؟
ويا ناس
أنا لست عدوكم
وهي ابنتكم
امنحونا فقط الوقت
ربما تحوَّل حبنا لنشيد يطعم الفقراء
ربما أنبت حبنا وردة توحِّد القبائل".
ربما تُحلّ الأزمة، وينتهي هذا كلّه، لو قال لها "أحبك جدًا" بدلًا من "كيف حالك جدًا"!
اقرأ/ي أيضًا: