منذ وعيت على الحياة، ونحن كعائلة، نترك الشام، ونمضي إجازتنا الصيفية في "الضيعة" وضيعتنا هي مقلس، في وادي النصارى، قرية جبلية متسامقة العلو، تهفو دومًا نحو وجه الله كي يرأف بعزلتها، حيث فخر أهلها الشخصي الوحيد، ليس بساتين التفاح الممتدة، ولا أشجار الكستناء التي اندغمت في أحراشها البكر، ولا شعراؤها غير الموجودين، ولا أطباؤها أو محاموها، فخر أهل القرية الحقيقي هو قدرتهم على رؤية صواري ميناء طرابلس عند انقشاع الضباب الأزلي عن قممها، وهو شيء نادر بندرة ذهابهم إلى قداس الأحد أو استماعهم لعظة الخوري إلياس.
في "مرسيدس"، تمشي يسرا مرتدية فستانًا مغطى بالعيون، نقشات متكررة لعيون عملاقة مفتوحة على آخرها، تناسب خبل شخصية الراقصة الذي تجسده
في واحدة من تلك الصيفيات، وتحديدًا في 1997، كنت بزيارة لبيت عمتي ماري فابتنها صديقتي المفضلة، حيث كنا نشترك ليس فقط بالنقمة على عزلتنا، بل وبممارسة الأحلام. في الخامسة ظهرًا من ذلك اليوم، وعلى شاشة قناة الـ LBC اللبنانية، على تلفزيون منهك 24 بوصة، يظل مفتوحًا دون هدف محدد، شاهدت يسرا تمشي في شارع قاهري، مرتدية فستانًا يلتصق بجسدها ومغطى بالعيون، نعم نقشات متكررة لعيون عملاقة مفتوحة على آخرها، تناسب خبل شخصية الراقصة الذي تلعبه يسرا، بفيلم علمت لاحقًا أن اسمه ياللغرابة "مرسيدس"، كما علمت أن هذا المقترح الجمالي للفستان، هو ما قدمته مخيلة ناهد نصرالله، التي ستقدم بعدها بفيلم "باب الشمس" أفضل وأعمق استخدام للكوفية الفلسطينية، عندما في أحد مشاهد النزوح، تسير نهيلة في ترحالها الأبدي، وتلف طفلها في الكوفية، وتربطها كالشملة، حول بطنها ورقبتها، كمن يلم بتلك الكوفية سيرة شعب بحاله.
اقرأ/ي أيضًا: وحدهم الغرباء من يكسرون رتابة الأمكنة
إذًا في مقلس، في وقت غير تقليدي لعرض الأفلام، سُمّرت أنا وابنة عمتي أمام "مرسيدس" وبدأ السحر، مشاهد غرائبية، مونتاجها نابض بحيوية آسرة، حكاية تسير خطوطها في كل اتجاه، سرد مركب لم يكن يشبه في شيء المنطق السهل لكل الأفلام المصرية التي تابعناها سابقًا، نوبي وشَعُره، تلميحات عن عقدة أوديب، انهيارات جمالية وعمارانية في القاهرة، وإحالات أصيلة لتناقضات في مجتمع أرستقراطيته عفنة. فيلم أقل ما يمكن وصفه به أنه فيلم جديد.
وكي تتسق الحكاية، ويبُرر الانبهار، حيث لم يكن مرسيدس هو أول فيلم مختلف أشاهده، فقد انغمست لسنوات في أمزجة الأفلام الأوروبية، اليابانية إلخ.. ما كان مبهرًا بالنسبة لي هو أن هذا الفيلم، هو فيلم مصري، مخرجه يتحدث العربية، ويعيش في شوارع أعرفها، ومدن قريبة من متناول اليد. بدا يسري نصرالله قريبًا من متناول اليد، شخص بإمكاني أن أكون مثله، وكي أُفهم وأكثر، علي أن أشرح من أكون، فقد كنت في وقتها شابة غاضبة في الـ23، أتابع فشلي الجامعي بكلية الأدب الإنجليزي، حيث اعتبرت ذاك الفشل هو طريقتي الوحيدة للثورة على فقر خياراتي الحياتية، ولكي أُفهم جيدًا أكثر وأكثر، عليّ أن أعود قليلًا إلى الوراء، فقد رُبيت على يدي أب اعتبرني فلتة الذكاء التي لن تتكرر، طفلة قرأت الجرائد في الخامسة من عمرها، وأرسلتها المدرسات لتُري باقي الصفوف كيف يكون التفوق بالرياضيات وبالأدب، الطالبة النجمة، المسيحية التي حفظت آيات القران كمن يحفظ أغنية، حيث كانت تلقي بأفكارها الإعجازية في كل مكان، وفوق كل شيء، لكن سينتهي بعد عدة ضربات من القدر، ضربات تركتني محبطة ومعدمة الخيارات، أسير مترنحة، مثقلة بعشق للفن، للتشكيل والعمارة، للمسرح والسينما، وقارئة لا ترتوي. كنت أعلم أني أريد أن أفعل شيئًا لا أدري ما هو، الكتابة الأدبية لم تكن في بالي، فكرت بممارسة النقد المسرحي، فكرت بكتابة السيناريو، فكرت وفكرت، وكل خيار من هؤلاء كان يغمسني أكثر في أعماق الفنون، ويتركني لأغرق في عجزي، متسائلة عما سيتمخض عن كل تلك المعارف. وأتى مرسيدس، وبذر بذرته الشيطانية في وعيي، فبمجرد انتهاء الفيلم، كنت قد ابتلعت حبة المعرفة المتريكسية، وسأبدأ برحلتي المعتوهة لأصبح مخرجة.
بعد سنتين سأتوجه إلى باريس لدراسة السينما، فقد تخرجت من كلية الآداب كشرط للسفر، عندها سيفجر يسري نصر الله، قنبلته الثانية وسيصنع "المدينة"، أول فيلم سينمائي مصري بكاميرا ديجيتال، فاتحًا الأمل على مصراعيه للمخرجين المستقلين الذين عرفت أني سأكون واحدةً منهم، وكي أتم ارتباطًا ما بروح بعيدة المنال، توجهت إلى السفارة المصرية لأحصل على عنوان يسري نصر الله، تلفونه ربما، أو أي خيط يربطني به، أردت أن أحكي له عني، أردت أن يعرف أن هناك إنسانًا موجودًا على هذا الكوكب، يرتب حياته الآن بطريقة هو من ألهم خياراتها. في السفارة المصرية، اعتقدوا أني مخبولة، وقالوا أنهم لا يقدمون هذا النوع من الخدمات.
نعم سيحصل أني سأسافر لدراسة السينما، وسيحصل أيضًا أني سأعود بخيبة كبيرة دون إتمام الدراسة، لكنني مع هذا، وخلال أشهر وبمساعدة من ناس كثر، وأهمهم هيثم حقي، سأدخل إلى هذا المطبخ الفني، وسأبدأ بالتعلّم، شخص أبله تمامًا، دون أية خبرة تذكر، لا يملك إلا رغبته بالتعلم، حيث للقدر دائمًا كلمته، فيهبط علينا كنقمة أو كغيمة، وهكذا في مساء أحد الأيام من العام 2001، وكنت أعمل كمساعدة في مسلسل "ردم الأساطير" لهيثم حقي، يأتي أحد المساعدين الآخرين لاهثًا ويسألني دون أي مناسبة:
- مين هاد يسري نصرالله، وشو عامل أفلام؟؟
وطبعاً أخبرته بكل ما أعرف..
ذهب المساعد ليتباهى بمعرفته وليحكي ما أخبرته به بالظبط.. ثم يعود منتصرًا إلي كوني أنقذته أمام باقي الكاست كي لا يبدو جاهلًا، وقلت له:
- ليش عم تسأل عن يسري نصرالله؟
- لأنه هون.. إجا يشوف أستاذ هيثم.
وقفزت أنا كالملسوعة، يسري نصر الله لم يأت فقط إلى الشام، بل هبط على لوكيشن مسلسل أنا فيه!! وبحذر تركت غرفة المكياج، وكي لا أجفّله، اقتربت بهدوء، كان يقف وراء المونيتور، ويشاهد لقطة لممثلة، قال عنها إنها "بتمثل وحش أوي" ضحكت كثيرًا، فقد كانت ممثلة وحشة فعلًا، ثم بوجيب بالقلب، صمتت وأنا أراقبه يتابع حديثه الممتع دائمًا، وبعد قليل، بعد أن أتم حديثه مع هيثم حقي، أحسست أنها فرصتي أن أقول له ما أشعر به، وفاستوقفته على حدة، وشرحت له ما الذي يعنيه لي وجوده، وما الذي يعنيه لي مشروعه الفني وحكيت عن باريس، والسينما، والسفارة المصرية وفيلم المدينة والكاميرا الديجتال ووووو، وعندما استعجله مرافقه، نظر إليه ضاحكًا وقال "مُعجبة".
سيفجر يسري نصر الله، قنبلته الثانية وسيصنع "المدينة"، أول فيلم سينمائي مصري بكاميرا ديجيتال، فاتحًا الأمل على مصراعيه للمخرجين المستقلين
نعم سيبقى يسري في دمشق كي يحضر لفيلم "باب الشمس"، وسأرابط على باب فندق الفاندوم، واتصل مرارًا لأعلم متى غادر ومتى حضر، وسأشتري رواية إلياس خوري، وسأقرأها خلال ليلة دون توقف، بينما اطلب من تيم الحسن أحد من قرأوا دور خليل، أن يعطني نسخة السيناريو لاطلع عليها فقد أردت أن أعمل في "باب الشمس" حتى لو كعاملة بوفيه، وأردت أن اُظهر لمخرجي المفضل مدى اهتمامي، وعند اللقاء سيضحك يسري نصر الله كثيرًا عندما عرف أننا من طلب السيناريو من تيم، بينما ظن أنهم "حرامية أفكار" يريدون الاستيلاء على سيناريو فيلم لم ينفذ بعد.
فقال لنا ونحن نجلس سوية على أرض غرفته: إنتوا مجانين يا ولاد بتفكروني بنفسي!
اقرأ/ي أيضًا: عن الأماكن وبروتكولات الفقد
نعم، سيستجيب يسري لإلحاحي، سيقبل أن أتمرن في رحاب مشروع كبير اسمه "باب الشمس"، وسيكوّن هذا الفيلم جزءًا من مخيلتي، ومن ذاكرتي الشخصية، سيصنعني ويعلّم بي على المستوى الفني والإنساني، نعم سأكتب روايتي الأولى كي أحاكي قصة بعثة سينمائية تهبط على قرية وتغير بحياة مراهق، محولة إياه من خالد إلى لولو، سأصنع فيلمي الأول "تك تك" ولن يهمني فيه سوى أن يسري نصر الله شاهده وأعجبه، سأكبر وأسافر، سأصنع مشاريع صغيرة وكبيرة، سأفشل كثيرًا، وأنجح قليلًا، لكن واحدة من نجاحاتي التي لن أنساها، أني كنت شخصًا شاهد فيلمًا سينمائيًا فشّكل له حياته.
اقرأ/ي أيضًا: