تفتقد المكتبة العربية إلى أدبيات خاصة بحيثيات السلامة الذاتية وإدارة المخاطر عند إجراء البحوث الاجتماعية، بما يجعل عملية البحث محفوفة بالمخاطر، لا تتحرى المحافظة على سلامة عامليها. ومما يزيد الطين بلّة صعوبة البيئة البحثية في منطقتنا، وتقاطعها مع محاذير أمنية عديدة، فتجد الباحث والباحثة يخوضون عملهم البحثي في سياق قد يتعرضون فيه للمساءلة الأمنية من الدولة المضيفة في الأحوال الجيدة، وقد يتعرضون للأذى الجسدي المباشر، الذي قد يرقى لفقدان حياتهم في بعض الأحيان.
لقد كانت حادثة مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، منذرة بواقع صادم غاب عن كثير من العاملين في مجال العلوم الاجتماعية، وتجليًا حقيقيًا للخطر الداهم على حياة الباحثين في منطقتنا. كان ريجيني يجري بحثه الميداني في موضوع النقابات التجارية المصرية المستقلة لنيل شهادة الدكتوراة من جامعة كامبريدج، ولكنه اختفى في تاريخ 25 كانون الثاني/ يناير 2016، ثم وُجدت جثته ملقاة على قارعة الطريق بعد أسبوع من اختفائه. وقد جعل هذا الحدث المؤلم المجتمع البحثي في صدمة من خطورة العمل الميداني، وارتهان البحث الاجتماعي لسطوة السلطة وقبضتها الأمنية.
لا تنبع أهمية البحث من مدى خطورته، ويجب أن لا تغذي الأدبيات البحثية والمشرفين الأكاديميين مثل هذه التصورات
وعلى كل حال، يبدو أن المكتبة الأكاديمية الغربية ليست بذلك الثراء أيضًا، فلا يوجد أدبيات متخصصة في إجراءات وحيثيات اتخاذ الحيطة والحذر في سياق البحث الاجتماعي الأكاديمي، مما يجعل الاطلاع على الكتاب الذي بين يدينا اليوم "بيئة بحث ميداني أكثر أمانًا في العلوم الاجتماعية: دليل الأمن البشري والرقمي في سياقات البحث العدائية"(1)، ضرورة ملحة للباحثين العرب والأجانب من المشتغلين في هذا الحقل. إذ يُعتبر الكتاب، الصادر عن دار نشر "سيج" (SAGE) الأمريكية عام 2020، تأليف مجموعة من الأساتذة والباحثين، مساهمة نوعية جديدة في هذا السياق.
يوضح المؤلفون في مقدمة الكتاب أن غالبية أدبيات أخلاقيات البحث والسلامة في العمل الميداني كانت موجهة للصحفيين والمشتغلين في القطاعات التنموية في العمل الإنساني والمنظمات غير الحكومية(2)، والتي توصي في غالبها بضرورة قضاء أقصر وقت ممكن في سياقات الأزمات ومناطق النزاع والحرب. لكن ذلك لا ينطبق على الباحثين في العلوم الاجتماعية الذين يتوجب عليهم قضاء فترات عمل ميداني طويلة بعيدًا عن أماكن عملهم الأساسية.
يتحدث الكتاب عن ثلاثة أنواع من التهديد يواجهها الباحثين: التهديد الجسدي الذي قد يتعرض له الأفراد من قتل أو اختطاف أو حجز أو منع دخول لمناطق البحث، أو الترحيل والطرد، أو حتى المرض والتعرض للحوادث. وتهديد السلامة النفسية الذي يواجهه الباحثين من العمل في بيئات خطرة أو دراسة مواضيع حساسة، وقد ينتج الخطر النفسي من النبذ الذي يمارسه المجتمع الذي يدرسه الباحث ممن لا يتفقون مع موضوعات اشتغالك البحثي، أو من تعرضك المباشر أو تعرض أقرانك وشيوع شائعات وأخبار مماثلة عن حوادث عنف في محيطك البحثي. والضغوط النفسية الناتجة عن مثل هذه الوضعيات قد تساهم في خفض قدرات الباحث أو الباحثة على تحليل وتقييم حجم الخطر الذي يكتنفهم.
أما التهديد الثالث، فهو الخطر الرقمي الناتج عن تسريب البيانات والمعلومات الشخصية للباحث أو الباحثة، أو المادة البحثية التي يتم يجمعها من الميدان، والتي يرتبط كثير منها بمعلومات حساسة ترتبط بمجتمع البحث أو شخص الباحث أو الباحثة، وقد يتعرض من جراء ذلك إلى سرقة الهوية أو التشهير أو حتى الخطف والقتل إذا كانت المادة البحثية تشير لأفراد بعينهم، أو تساعد في إعادة التعرف عليهم.
ويشير الكتاب إلى سلوكيات متهورة من قبل بعض الأساتذة المشرفين من ذوي الخبرة الطويلة الذين يدفعون الباحثين الشباب للعمل في سياقات عمل شديدة الخطورة، ظنًا منهم أن العمل في سياقات غير آمنة يأتي بعوائد بحثية ثمينة لا يمكن تحصيلها من سياقات البحث الآمنة والمستقرة، وكأن تعريض الباحث للخطر، ودفعه للعمل في بيئات مضطربة وغير آمنة وسام شرف. وينقل المؤلفون هنا قصة أحد أعضاء الهيئة التدريسية في جامعة مرموقة رفض مقترحًا بحثيًا لأحد طلابه لأن المقترح يقتصر على الذهاب للمنطقة الأكثر أمانًا من العراق. تتجاهل هذه العقلية ما قد يواجهه الباحث في الميدان، وتتغذى على منطق يُمجّد المُخاطرة البحثية.
يقول الخبير في سياسات الشرق الأوسط مارك لينش بعد أحداث جوليو ريجيني: "يجب أن تمنع الجامعات طلابها من إجراء أي بحث في مصر". لا يخفى على القارئ أن منطق لينش المبني على الخوف لا يخدم أهداف العديد من الباحثين الساعين خلف تحصيل المعرفة. والحقيقة أنه لا يجب علينا أن نتوقف عن السعي خلف المعرفة بشكل قطعي، لكن يمكننا تخفيف المخاطر وإدارتها بحكمة من خلال اتباع القوانين والأنظمة وإجراءات السلامة التي يقترحها الكتاب. وعمومًا، لا يستحق أي بحث يشوبه الخطر العالي أن نسعى خلفه، ويجب أن نقتنع بأن أهمية البحث لا تنبع من مدى خطورته، ويجب أن لا تغذي الأدبيات البحثية والمشرفين الأكاديميين مثل هذه التصورات.
يعد الكتاب مساهمة نوعية ضرورية، وتعتبر ترجمته إلى العربية أمرًا غاية في الأهمية للقارئ والباحث العربي
وينبّه المؤلفون أيضًا إلى أن آثار البحث الاجتماعي تتجاوز فترة العمل الميداني، فنتائج البحث لا تقتصر على مدة تنفيذ المشروع، بل تمتد لما بعد ذلك، وقد تنعكس على حيوات المشتغلين الآخرين ممن انخرطوا في عملية مساعدة الباحث في إتمام عمله من شركاء محليين وخبراء ومترجمين وسائقين ومشاركين آخرين في العملية البحثية. ولذلك يجب أن تأخذ إجراءات وأساليب تقييم الخطر حقيقة أن ما يجري اليوم قد يُلقي بظلاله على المستقبل، وأن المسموح اليوم قد يصبح محظورًا فيما بعد، مما يهدد أمن المشاركين في البحث بعدما يترك الباحث حقله.
يناقش الفصل الأول من الكتاب الخطوات القبلية التي تساعد على تقييم حجم المخاطر المحتملة، ومدى تأثيرها على سير البحث، وكيف يمكن الاستعداد والتحضير بما يجعل عملية البحث أكثر أمانًا. يقدم الفصل خطوات منهجية واضحة، ويشفعها بقوائم أسئلة يجب أن يُجاب عليها قبل بدأ عملية البحث، والولوج في معمعة العمل الميداني. كما يعرض أنواع البيانات المختلفة التي يجب أن تُجمع، ابتداءً بالأطر الرسمية القانونية التي تسمح للباحث أو الباحثة بإجراء بحثه، مرورًا بفهم المعايير والتوقعات والعادات المجتمعية، ووصولًا إلى تحليل التحديات المحتملة داخل سياقٍ بحثي معين contextual analysis من قبيل الأمراض والحوادث وتوفر المأكل والمشرب وإمكانية المسكن.
بينما يوضح الفصل الثاني التوجيهات اللازم على الباحث أو الباحثة اتباعها عند الانخراط في الميدان فيما يتعلق بالأمور اللوجستية والسكن والمكتب والتعامل مع الأزمات. وينبه إلى وجوب الاحتياط من تأثير الهوية على سلامة الباحث أو الباحثة، ويحذر من التوقف عن التقييم المستمر للمخاطر بما يتضمن الاستجابة الدائمة لكل مستجدات السياق البحثي، باعتبار عملية التقييم عملية مستمرة لا تتوقف بمجرد بدأ العمل الميداني.
ثم يتجه الفصل إلى اللوجستيات التي تشمل أساليب اعتياد الباحث على البيئة البحثية، وأهمية تكوين العلاقات، وإدراك المعطيات السياسية الاجتماعية الجغرافيا political ecology للحقل، وكيفية تحصيله المسكن ومكان عملٍ مناسب، واعتماده على وسائل نقلٍ مناسبة. وينتهي الفصل بحديثه عن أسس السلامة والأخلاقيات في الممارسات البحثية وكيفية الاستجابة للطورائ والأمور غير المتوقعة.
ويركز الفصل الثالث على الصعوبات التي يُغفل عنها عادة، والماثلة في فترة ما بعد انتهاء البحث. ولا تقل أهمية هذه الفترة عن فترتي ما قبل البحث وخلاله، حيث يجب أن يقوم الباحث بمراجعة كل ما حدث معه أثناء عمله الميداني، ويرى كيف كان تأثير عمله البحثي على سلامة الفاعلين المشاركين الذين ساعدوه في إنجاز مهامه البحثية.
ويطرح الفصل كذلك قضية النشر، ومشاركة نتائج البحث مع العامّة، أخذًا في عين الاعتبار سلامتك كباحث أو باحثة وسلامة المشاركين ومجتمع البحث، وآليات التعامل مع محاولات الجهات المرتبطة بأمن الدولة بالتحفظ أو الحصول على بياناتك ومصادرك التي جمعتها أثناء بحثك. وأخيرًا، يناقش الفصل السلامة النفسية والتحديات الأخلاقية التي يواجها الباحث أو الباحثة في العلوم الاجتماعية، وكيفية التعامل مع أعراض وعلامات الصدمات النفسية التي تظهر بعد انتهاء الشغل الميداني، ومدى فاعلية وجدوى مشاركتها مع المجتمع العلمي لتوخي الحذر وتطوير أدوات التقييم في المستقبل.
وأخذًا بعين الاعتبار حاجة الباحثين واعتمادهم المتزايد على وسائل الاتصال والتخزين والأرشفة الرقمية، يستعرض الفصلان الرابع والخامس الأمان الرقمي للباحثين، بما يتضمن أهم الأدوات والأساليب والوسائل التي يجب استخدامها من أجل حفظ وحماية المعلومات والبيانات الرقمية من عمليات المراقبة والتجسس والسرقة الإلكترونية.
تفتقد المكتبة العربية إلى أدبيات خاصة بحيثيات السلامة الذاتية وإدارة المخاطر عند إجراء البحوث الاجتماعية
يبني هذا الفصل على أدبيات الخبراء الجديدة التي ظهرت بعد انتشار أساليب التجسس، من خلال توفير الشفافية حول التهديدات والاختراقات الأمنية الراهنة، وذلك عبر تطوير وتسييق contextualizing(3) أدوات الأمن التكنولوجي، وإتاحة إرشادات الاستخدام الصحيح لهذه الأوات، وربطها بممارسات الحماية العامة والمعلوماتية والشبكية.
يُختتم الكتاب بفصل يتحدث عن دور المؤسسات البحثية والأكاديمية والجامعات، باعتبارها أحد اللاعبين الرئيسيين في اقتصاديات إنتاج المعرفة، ولذلك هي معنية بالدرجة الأولى بحماية المشتغلين في هذا المجال. ويدعوا المؤلفون جميع مؤسسات التعليم العالي لاحترام المسؤولية الملاقاة على عاتقها اتجاه باحثيها وباحثاتها بجميع مستوياتهم ودرجاتهم العلمية، بتوفير التدريب والمصادر اللازمة لتنفيذ مشاريعهم في ضوء انكشافهم وتعرضهم المتزايد للأذى والخطر.
أرى أن الكتاب يعتبر مساهمة نوعية ضرورية، وهو مرجعٌ ضروري يجب ألا ينفك جميع المشتغلين في مجال الأبحاث والكتابة الأكاديمية عمومًا عن العودة إليه باستمرار. هذه النوعية من الكتب لا تقرأ لمرة واحدة، بل يُرجع إليها باستمرار. ونظرًا لافتقار المكتبة العربية لهذه النوعية من الكتب، وافتقار مؤسساتنا الأكاديمية للتدريب، تعتبر ترجمة الكتاب أمرًا غاية في الأهمية للقارئ والباحث العربي.
(1) عنوان الكتاب باللغة الإنجليزية: "Safer Field Research in the Social Sciences A Guide to Human and Digital Security in Hostile Environments".
(2) مثل البروتوكولات التي تقدمها لجنة حماية الصفحيين، انظر الرابط، وما يقدمه البنك الدولي، والأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي.
(3) وضع الأدوات في السياق السوسيو-ثقافي والسياسي والجغرافي للمنطقة التي يجري فيها الباحث أو الباحثة بحثه.