بالكاد يستطيع الإنسان اليوم التركيز في مهمّة واحدة لثلاث دقائق على أحسن تقدير. كيف لا ونحن نلمس ونشيّك هواتفنا الذكيّة زهاء ألفي مرّة في اليوم، ونقضى ما يقارب ثلاث ساعات على الأقل يوميًا ونحن نحدّق بشاشات هذه الأجهزة الملتصقة بأيدينا.
إننا نعيش في زمن التركيز الضائع، أو "التركيز المسلوب" (Stolen Focus) بحسب عنوان كتاب يوهان هاري، الكاتب البريطاني السويسري، المعروف بنقاشاته الذكية والجرئيه حول مواضيع الاكتئاب والإدمان والصحة النفسية. وبحسب تعبير الكاتب نفسه، فإننا نعيش عمليًا في "أزمة تشتّت" تتعمّق كل يوم، مع تزايد عناصر الإلهاء الرقمية من حولنا، وخاصة تلك الصادرة عن تنبيهات هواتفنا "الذكية" وما تحويه من تطبيقات للتواصل.
بعض أسباب هذه الأزمة جليّة ومعروفة، منها ما يتعلق بمبدأ العمل الذي تقوم عليه منصّات التواصل الاجتماعي المملوكة للشركات التقنية الكبرى، والتي يقوم نموذجها الربحي على السعي المستمر للاستحواذ بشكل متزايد على انتباه المستخدمين ونهب أوقاتهم والسيطرة على انتباههم، إلى حدّ اليأس من فرص النجاة من شرَكها. إلا أنّ ثمة أسبابًا أخرى غير مباشرة، ونادرًا ما يتم التطرق إليها أو التعامل معها، منها مثلًا طبيعة الطعام الذي يدخل إلى أجسادنا، كالأطعمة فائق المعالجة، والأطعمة التي تعتمد على الكربوهيدرات المحسّنة، إضافة إلى أنماط نومنا. ومنها كذلك التغيّر الذي طرأ على مرحلة الطفولة عند الأمريكيين (والشعوب المتأثرة بهذا النمط المعيشي)، والذي قتلَ الاستقلالية لدى الأطفال، وجعلهم دومًا تحت المراقبة والتوجيه والحماية.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تفهم وحش التلكّؤ وتقضي عليه في 3 خطوات بسيطة؟
في هذا الكتاب، يدعو يوهان هاري إلى ما يدعوه "ثورة اليقظة"، أو "ثورة استعادة التركيز" للتوعية بضرورة الفطام عن الهواتف الذكية والسمّية الرقمية التي تؤثّر سلبًا على قدرة الإنسان على الانتباه والتركيز لفترة مطوّلة، للانغماس في كتاب أو فيلم أو حتى المشاركة في حوار من دون أن ينظر سبعين مرّة إلى شاشة هاتفه أثناء مجالسة الآخرين. ومن أهمّ النقاط الأخرى التي يثيرها هاري في كتابه، هي إعادة النظر في كيفية قضاء الأطفال لأوقاتهم، وإتاحة المجال لهم للعب الحرّ بعيدًا عن التقنية، وبعيدًا كذلك عن أعين الأهل المترقّبة والمستعدّة للتدخّل عند كلّ كبيرة وصغيرة.
في هذا الحوار المكثّف والمترجم بتصرّف عن نيويورك تايمز مع يوهان هاري، إضاءة أفضل على عدد من أهم الأفكار التي وردت في الكتاب:
- هل ثمّة رابط بين مواضيع كتبك الثلاثة: الاكتئاب، والإدمان، والانتباه؟
لا تنفكّ عنّي الرغبة باستكشاف الغوامض وفتح ذهني على مساحات جديدة من المعرفة. في هذا الكتاب، شعرت شخصيًا بالتدهور في قدرتي على التركيز. تلك الأشياء التي تحتاج مني تركيزًا عميقًا، ولطالما شكّلت جوهرًا في طبيعتي وكياني، أو هكذا كنت أظن، كالقراءة والحوارات المعمّقة، باتت تتفلّت منّي، وصرت معها كأني أصعد على درج كهربائي هابط. ما زلت قادرًا على القراءة، ولكنّ متابعتها صارت أصعب، وهو أمر يكاد يكون مشتركًا بين جميع الناس من حولي.
وأعتقد أن هنالك علاقة أكثر عمقًا بين الظواهر التي ذكرتها أعلاه. فنحن نميل عند التفكير في الاكتئاب أو الإدمان أو أزمة التشتّت، إلى اعتبارها مشاكل فردية، تبدأ وتنتهي عند الإنسان الفرد، وننسى أنّ هذه الأزمات تنخلق وتترسّخ ضمن بيئة وداخل نظام، الفرد جزء منهما. وبحسب الدكتور نويل نيغ، وهو أستاذ الطب النفسي وأحد أبرز الخبراء المختصين بمشاكل الانتباه لدى الأطفال، فإن علينا أن نسأل أنفسنا إن كنّا نعيش اليوم ضمن "ثقافة عطب الانتباه الجمعي"، وهي ثقافة تقوّض كل ما لدينا من قدرة على التركيز والانتباه.
- ماذا عن الجائحة؟ كيف أسهمت وقائع السنتين الماضيتين في هذا العطب الجمعي؟
لقد فاقمت الجائحة من التوتّر، والتوتّر يؤدي إلى حالة ندعوها "الاحتراس والترقّب" (vigilance)، وهي مسؤولة عن جعل التركيز أمرًا صعب المنال، وذلك لأن الدماغ يحاول استشراف الأخطار المحتملة في ظل الأزمة.
من جهة أخرى، لقد شرّعت لنا الجائحة نافذة على رؤية كارثية للمستقبل، وذلك حين نقلتنا فجأة إلى ناحية لم نتخيّل الوصول إليها إلا بعد عقد أو عقدين من الزمن، ولاسيما فيما يتعلق بالتقنية واستخدامها. لقد رأينا في الجائحة نسخة من المستقبل الذي لطالما تهيّبنا الوصول إليه. ولعلّ هذا ما يفسّر عدم احتفائنا بالتحوّل الذي طرأ على مجال العمل، ولم نسمع أحدًا يفرح باكتفائه بعقد الاجتماعات على "زوم"، وكأننا وصلنا إلى هذه النقطة ونحن نعتزم بوعي منّا على تركه وراء ظهورنا والمضيّ نحو مستقبل أفضل.
البعض يرى أن علينا أن نتحمل المسؤولية الفردية لضبط سلوكنا أمام الشاشة، بدل الاكتفاء بلوم الواقع التقني على عطب التركيز الذي تتحدث عنه، إلا أنّك تصف هذا التوجّه بأنه "تفاؤل قاسٍ"، يقدّم نصيحة تبدو في ظاهرها جيدة، لكنّها غير قادرة على تغيير الوضع القائم.
حين شرعت بالقراءة والبحث لتأليف هذا الكتاب، تعلق ذهني بملاحظتين أساسيّتين: الأولى هي أنني أعاني من فتورٍ في العزيمة والقدرة على التركيز، والثانية هي أنّ ثمة من اخترع وطوّر الهاتف الذكي". لذا قرّرت أن أعيد شحذ عزيمتي، وبدأت بالتخلّي عن الهاتف المحمول، لمدة ثلاثة أشهر، وأمضيتها كاملة منقطعًا عن الإنترنت، في خطوة متطرّفة لاستعادة شيء من ثقتي بعزيمتي. لم يخل الأمر من تحدّيات، لكنّي ذُهلت بمقدار ما استطعت إنعاشه من قدرتي على التركيز. تنفّست الصعداء، وصار بوسعي أن أجلس مجددًا مع كتاب ثماني ساعات في اليوم. وحين انتهت تلك الخلوة، خطر لي أن أعزم على عدم العودة أبدًا إلى الحياة التي كنت أعيشها قبل ذلك، بعد أن ذقت حلاوة التركيز، والتي تفوق متعتها بالتأكيد على متعة التغريدات واللايكات والوجود الافتراضي على الشبكة.
غيرَ أن الأوبة إلى الهاتف كانت حتميّة.
مضت بضعة أشهر برفقةَ الهاتف بعد انقطاع عنه، وشعرت بأني خسرت من جديد أكثر من 80 بالمئة من شكيمتي، وعدت إلى سابق عهدي من تفلّت المقدرة على التركيز. ولم أفهم حقيقة ما جرى معي حقًا إلا بعد أن أجريت مقابلة مع جيمس ويليامز، والذي أعدّه الفيلسوف الأهمّ اليوم فيما يتعلّق بأزمة التركيز، إذ قال لي: "ما جرى معك أشبه بمن يحارب تلوّث الهواء بالاكتفاء الشخصي بارتداء قناع واقٍ".
هذا لا يعني أن القناع ليس حلًا نافعًا لهذا الإنسان، ولكنّه لن يحلّ مشكلة التلوّث.
- بما أنّك تقول إن اعتزال التقنية لفترة من الزمن ليس الحلّ الأنسب، فما الأساليب الفعّالة الأخرى التي تنصح بها على المستوى الفردي؟
أنصح بالعناية بالنوم، والحصول على القسط الكافي منه. أنا شخصيًا أنام ثماني ساعات على الأقل. أنصح أيضًا باستخدام خزنة الهاتف، وهي خزنة رقميّة صغيرة تلقي بها الهاتف، وتغلقها عليه مع وضع مؤقّت زمني، لا يمكن تجاوزه حتى ينتهي، وأنا أستخدم هذا الأسلوب حين أكتب، إذ أضع الهاتف وأتركه فيها كلّ مرّة أربع ساعات على الأقل. كما أنّي لا أجلس لمشاهدة فيلم مع صديقي، إلا بعد أن نضع هواتفنا بعيدًا.
- ثمّة من يرى أن القلق بشأن أثر التقنية على التركيز ليس إلا نوبة فزغ أخلاقية، شبيهة بالرفض الذي واجهته الآلة الطابعة إبّان تطويرها. ما ردّك على هذا الادعاء؟
كنت لوهلة أظنّ الأمر ذاته، إلا أن الأدلّة التي تتوفر لدينا اليوم دامغة، ومعظم الناس ربما يقرّون بذلك ويلاحظونه. والأدهى من ذلك هو أنّ المؤثّرات السالبة لقدرتنا على التركيز تتزايد بشكل هائل. انظر مثلًا إلى تيك توك، وكيف تفوق على فيسبوك في قدرته على توليد الإدمان على استخدامه. ولا بدّ أمام هذا الواقع أن نشهد حراكًا جمعيًا معاكسًا، يرفض التسليم باستلاب القدرة على التركيز، ويقول بأننا نريد حياةً نتمتع فيها بالقدرة على التفكير الهادئ العميق بلا تشتيت، وبفرصة لقراءة الكتب وإنهائها، وبفسحة للحديث مع أطفالنا وأصدقائنا.
- وهل هذه هي "ثورة استعادة التركيز" التي تدعو إليها في كتابك؟
الخطوة الأولى هي زيادة الوعي بهذه البلوى. كثيرون من حولنا اليوم يقولون إننا نفشل لأننا عاجزون عن التركيز، وهذا هو الواقع، الذي يؤثر على علينا جميعًا بطريقة أو بأخرى، وهو واقع مرتبط بأسباب بنيوية كبرى.
اقرأ/ي أيضًا:
كيف تفهم وحش التلكّؤ وتقضي عليه في 3 خطوات بسيطة؟
انفوجرافيك: طرق لمحاربة التلكؤ