مشهد
من خلف زجاج نافذته الفخم يطلع على الحشود المضطربة الغاضبة المدير، يرى كيف يحتدم الهُتاف ونواياهم "الغاضبة" لا تبشر بأنه سيعود للبيت. "الغوغاء المعاتيه"، يقول في نفسه "هؤلاء الذين كانوا يتمنون لحس حذائي مقابل البقشيش الآن يهددون بهدم المعبد على رؤوس الكل". "الزمن يتغير، ويركب هؤلاء الحثالة أكتاف أسيادهم" يردد الرجل. تُرى هل سأرى بيتي مرة أخرى؟
تأسيس
في شباط/فبراير عام 2011 وبعد يومين بالتمام والكمال من سقوط مبارك، أصدر المجلس العسكري الإعلان الدستوري الأول، وتولى زمام البلاد لمدة ستة أشهر، كما قام بحل دستور عام 1971 ودعا لإجراء تعديلات دستورية واستفتاء وانتخابات.
أثناء فترة الثلاثة عشر شهرًا التالية، ملأها العسكري بالتسويف والمماطلة والقرارات المتضاربة، التي لا تدل على استراتيجية ما متبعة، وملأها الشارع المصري بالاحتجاج والتظاهرات، وافق المجلس العسكري على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، فاز في كل منها جماعة الإخوان المسلمين.
دخل عبد الفتاح السيسي لاعبًا جديدًا في الحياة السياسية المصرية التي تُصور دومًا بأنها تحب الحكم العسكري
بعد مرور شهرين وقع هجوم كبير في سيناء في الخامس من آب/أغسطس، أسفر عن مقتل 17 جنديًا مصريًا، قام الرئيس المصري وقتها محمد مرسي على إثره بإلغاء الإعلان الدستوري، والذي كان قد أعلنه سابقًا في حزيران/يونيو مستبدلًا إياه بآخر يُعطى بموجبه السلطة التنفيذية والتشريعية. وقتها أحال مرسي سبعين لواءً بالجيش إلى التقاعد الإجباري وعزل طنطاوي.
اللعبة
التزم الجيش الحياد في فترة حكم الإخوان أثناء المعارك التي كانت بينهم وبين الشارع، وكان أداء الإخوان سيئًا للدرجة التي جعلتهم يميلون لصالح الجيش في تلك الفترة، حيث حافظ دستور 2012 على المصالح الاقتصادية الخاصة بالجيش، وطال ذلك منحه صلاحية محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. على أي حال، لم يكن لعاقل أن يعتقد أن المؤسسة الرئاسية وقتها تمثل أي سيطرة حقيقية على "الدولة العسكرية"، بميزانياتها وهيكلها ودورها المتوغل في القطر المصري منذ 60 عامًا.
اقرأ/ي أيضًا: أين ينتصر الشعبويون في العالم؟..ولماذا؟
من المفهوم أن الجماعة حين قدمت نفسها للشارع الذي انتخبها في هذا الوقت على أنها البديل المدني الأقوى، كانت غير جديرة بمواجهة الدولة العميقة وتضارب المصالح فيها ولا كانت قادرة على الاحتفاظ بمن اختاروا أن يكونوا لها حلفاء.
ففي الوقت الذي تجنبت فيه مواجهات مباشرة مع الجيش، كان الإخوان يعيّنون محافظين جددًا متجاهلين حلفاءهم، فخسروا أحد أقربهم وهو حزب الوسط، ثم إقالة مستشار الرئيس خالد علم الدين، عضو الهيئة القيادية العليا في حزب النور السلفي، نتيجة أحداث أزمة ثقة بين الطرفين دفعت بالأخير بعدها إلى إصدار بيانات تدعم مطالب المتظاهرين في الميادين المصرية، بحركة بدت عنترية، ويمكن توصيفها تحت بند "انتقام ساخن".
دخل عبد الفتاح السيسي لاعبًا جديدًا في الحياة السياسية بمصر التي تُصور دومًا بأنها تحب الحكم العسكري، أو الرئيس ذا الخلفية العسكرية، كانت خلفية اختياره على أساس "تدينه" متخطيًا قيادات أعلى بكثير منه في الجيش.
تطورت تصريحات السيسي من مهاجمة التعامل العنيف لقوات الأمن مع المتظاهرين إلى الدعوة لضرورة تغيير "عقلية الأمن" وثقافته في التعامل مع المتظاهرين، وحماية المعتقلين السياسيين من التعذيب والإساءة، وتهدئة اللعب مع القوى السياسية والظهور بمظهر "الحكيم" القادر على احتواء الغضب الشعبي والعسكري ضد مرسي والإخوان.
ثم تطوره المفصلي حين دعا السيسي في 23 حزيران/يونيو إلى توافق وطني لإنهاء حالة الانقسام في البلاد. وأكد أن المسؤولية الوطنية للقوات المسلحة "تحتم عليها التدخل لمنع انزلاق مصر إلى نفق مظلم من الصراع والاقتتال الداخلي".
حسام سويلم، وهو لواء سابق، اعتقد أن نوبل التي ذهبت إلى اللجنة الرباعية في تونس ذهبت إلى امرأة "تسمى رباعية"
ثم وأخيرًا المهلة المعروفة التي كانت في أول تموز/يوليو التي كانت لمؤسسة الرئاسة والقوى الوطنية للتوافق والتشاور للخروج من الأزمة، وإلا ستعلن القوات المسلحة "خارطة مستقبل" للبلاد. كان التطور سريعًا جدًا، ومكشوفًا في كثير من الأحيان.
وفي الثالث من تموز/يوليو 2013 أعلن السيسي عزل أول رئيس مدني منتخب، وعلق العمل بالدستور وكلف رئيس المحكمة الدستورية برئاسة البلاد مؤقتًا. وعقب إقرار الدستور -الذي أعدته لجنة الخمسين في كانون الثاني/يناير 2014- تمت ترقية السيسي إلى رتبة مشير، ثم أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في بيان رسمي، ترشيحه للرئاسة في إطار احترام و"إجلال لرغبة الجماهير العريضة من شعب مصر العظيم".
العبث
عبث مرحلي يُدرس في اللاتخطيط. 10 بنود من خارطة الطريق كُتبت كي لا تُنفذ. كان البند الأول ينص على تعطيل دستور 2012 وتعيين المستشار عدلي منصور رئيسًا مؤقتًا للبلاد. استمر منصور بالفعل قرابة العام وجعل يصدر إعلانات دستورية وقوانين كان أكثرها كارثية تمديد فترات الاعتقال الاحتياطي بصورة تقتل المعتقل وأهله إلى ما لا نهاية.
ثم أصدر إعلانًا دستوريًا في الثامن تموز/يوليو وضع فيه ترتيب العمليات الانتخابية ومواعيدها، وعاد ليخالفه بإجراء انتخابات الرئاسة أولًا، مخالفًا المادة 30 التي تنص على إجراء الانتخابات البرلمانية أولًا.
اقرأ/ي أيضًا: تيران وصنافير.. 200 كم/الساعة في الاتجاه الخاطئ
البند الثالث من خارطة الطريق نص على "تشكيل لجنة تضم كافة الأطياف والخبرات لمراجعة التعديلات الدستورية المقترحة على الدستور الذي تم تعطيله مؤقتًا" وبدلًا من تعديل المعطل شكلت لجنة الخمسين دستورًا جديدًا. ورأينا عهدين من الحكومات البائسة من الببلاوي إلى محلب، وفي المشهد شخصيات محسوبة على فلول النظام السابق الذي تمت الإطاحة به. ثم أتت نغمة إلغاء الدعم واستمر التخبط واللاسيطرة.
الواجهة
من الذي تصدر المشهد في مصر محسوبًا على الخلفية العسكرية التي تدعي قدرة إدارية عالية؟ على سبيل المثال لا الحصر، أحمد حلمي الهياتمي، وهو مدير سابق لكلية ضباط الاحتياط. عقلية لا تعرف كيف استطاعت الوصول إلى هكذا منصب، وهو يتحدث في أكثر من فيديو عن قتل البراغيث في الفئران تمهيدًا لقتلها، أو يتحدث عن أن المرأة المصرية هي التي اخترعت المسقعة والبيض بالحمص، و"لو اليهود ضربوا علينا حاجة هتروح عليهم تاني بسبب الرياح الشمالية الغربية".
وهو الرجل الذي كان محافظًا في إحدى أخطر المحافظات إبان الثورة وبعدها، وهي محافظة السويس! أو حسام سويلم وهو أيضًا لواء سابق، وهو الذي اعتقد أن نوبل التي ذهبت إلى اللجنة الرباعية في تونس ذهبت إلى امرأة "تسمى رباعية".
واللواء حمدي بخيت، واللواء عبد العاطي صاحب الجهاز الذي يعالج الأمراض، وأعضاء البرلمان، حدث ولا حرج، هؤلاء هم الواجهة، أو الصف الأول، والمجال لا يتسع لكل الأمثلة.
هؤلاء هم أذرع ما أسميناه بـ"الثورة المضادة" التي اعتقد الشعب أنها داهية و"تدير" المشهد الخلفي للصورة المتردية لثورة يناير، وتفخخ وتزرع الأكمنة. ثوب مهترئ، مرقع، لا مجال فيه لأي إصلاح أو علاج مؤقت. يمكن أن يناسبه أي تشبيه ليس فيه إشارة من بعيد أو قريب للعقل المدبر أو الدماغ. إنه تضارب مصالح النخب التي تصدرت ثورة يناير وأجهزت عليها تمامًا وجعلت "المعركة" هكذا باهتة.
اقرأ/ي أيضًا: