"مصر يا أم العجايب.. شعبك أصيل والخصم عايب".. غناها الشيخ سيد درويش قبل ما يقارب المائة عام، متحدثًا عن حال زمانه وعن حالنا اليوم، حيث أصبحت "العجايب" هي القانون لكل ما يحدث على أرض مصر.
المتحرش مجرم وعقوبته حق للمجتمع كما هي حق للضحية، ولا بد من تعويض الضرر الذي لحق بالمجتمع نتيجة لهذا الفعل الإجرامي
في الأونة الأخيرة، ثار جدل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي بعد ظهور دلائل عن قيام لاعب المنتخب المصري عمرو وردة بالتحرش بعارضة أزياء مصرية وبفتاة مكسيكية، وبغيرهن من الفتيات اللاتي وقعن ضحية له، وهو ما فتح الباب من وراءه لنقاش أكبر حول مفهوم التحرش ذاته ومتى يعد الفعل أو القول تحرشًا، وكأننا نعيد اختراع العجلة!
اقرأ/ي أيضًا: عمرو وردة.. القصة الكاملة لـ"متحرش" المنتخب المصري
حسب خريطة التحرش، فالتحرش هو "أي صيغة من الكلمات غير مرغوب بها و/أو الأفعال ذات الطابع الجنسي والتي تنتهك جسد أو خصوصية أو مشاعر شخص ما وتجعله يشعر بعدم الارتياح، أو التهديد، أو عدم الأمان، أو الخوف، أو عدم الاحترام، أو الترويع، أو الإهانة، أو الإساءة، أو الترهيب، أو الانتهاك أو أنه مجرد جسد"، وهو تعريف منضبط وجامع ويمكن تطبيقه بسهوله على رسائل عمرو وردة.
لنأتِ على صلب الموضوع، فالمشكلة ليست إطلاقًا في التعريف، المدافعون عن وردة وعن غيره من المتحرشين يعلمون ذلك جيدًا، المشكلة في مصر خاصة، وبلاد العرب عامة، أن المرأة هي الطرف الأضعف في المعادلة، هي دائمًا المذنبة حتى ولو كان مجنيًا عليها، ففي حالة التحرش يرى وعاظ السلاطين أن المرأة هي المجرمة دائمًا، حتمًا هي من استفزت المتحرش بملابسها، وكأن هذا المتحرش حيوان لا يستطيع كبت شهواته.
للتحرش في مصر سيناريو شهير يبدأ بأن تصيح المرأة عاليًا عقب التحرش بها، عادة ما تنصح النسويات بأن تقول المرأة "حرامي" وليس "متحرشًا"، تفاديًا لذلك السؤال اللزج من المارة "يعنى عملك إيه؟"، بعد هذا الصياح وعند اكتشاف أمر المتحرش فأحيانًا يساعده المتجمعون على الهرب، وأحيانًا أخرى أكثر شهامة يقومون بضربه ثم تهريبه "عشان مستقبله ما يضيعش"، أما عن ذلك المتحرش سيئ الحظ الذي لم يكتشف أمره، فهو أمام المارة "حرامي"، والحرامي يُقتاد إلى الشرطة، لا يُفلِت مثل المتحرش، ولهذا قصة أخرى، أكثر إثارة وأشد رعبًا.
تذهب الضحية إلى أقرب قسم أو نقطة للشرطة، لنستوعب الأمر، نحن الآن أمام فتاة استباح أحد الغرباء أجزاء حساسة من جسدها فقام بلمسها، وربما ما هو أكثر من ذلك، كأن يُلقى عليها مادة حارقة، حسنًا هي الآن في قسم للشرطة وفي حالة نفسية يُرثى لها، ومطلوب منها الآن أن تقوم أمام كل هذا الجمع من الضباط وأمناء الشرطة والمخبرين والمقبوض عليهم وعمال البوفية بأن تروى قصتها، هي الآن ستستجمع قواها وتوجل البكاء قليلًا لتقول إن الذى أتت به إلى القسم قد تحرش بها وليس سارقًا كما أشاعت، لا بُدّ أنك توقعت عزيزي القارئ ردّ الفعل!
الحق يُقال إن رد الفعل عادة ما يكون مختلفًا من حالة لأخرى، فأحيانًا يتم استكمال التحرش بالضحية داخل أسوار القسم، وأحيانًا يكتفون بالتنمر عليها ووصمها ببعض الأوصاف المُجرمة قانونًا، وفي حالات فردية يقوم بعض رجال الشرطة ممن يتقنون واجبات وظيفتهم بتحرير محضر بالواقعة، ومن ثم استكمال الإجراءات القانونية اللازمة، والتي انتهت في بعض الأحيان بإدانة متحرشين وحسبهم لمدد تراوحت بين 6 أشهر و3 سنوات.
هذا عن الضحية التي فضلت الكلام على السكوت، فبعض الفتيات لا يقمن بالإبلاغ عن المتحرش خوفًا من الأهل والمجتمع الذي يرى المتحرش بها فتاة سيئة السمعة، وربما عاهرة، وفي أحيان كثيرة تكون الفتاة قد بلغت بالواقعة ولكنها تتنازل عن البلاغ بعد ذلك، إما لأن أهلها "خافوا من الفضيحة"، أو لأن أهل المتحرش قد ذهبوا إليهم يستسمحونهم أو يهددونهم، يتوقف ذلك على حسب إن كانوا من عائلة ذات نفوذ أم لا، وفي أحيان أخرى يقوم المتحرش بعد قضاء عقوبته بالانتقام لنفسه.
حسنًا، هذا كله ونحن نتحدث عن واقعة حدثت في أحد الشوارع أو الميادين أو وسائل المواصلات، أما في حالة التحرش الإلكتروني، فعلى الرغم من أنه الأكثر انتشارًا، تقريبًا لا توجد فتاة أو سيدة مصرية دخلت إلى الإنترنت ولم تتعرض له، فعادة لا يتم الإبلاغ عنه أصلًا، وإن حدث الإبلاغ فيكون لمباحث الإنترنت التي - في غالب الأمر- لن تتخذ إجراءاتها ما لم ترى تهديدًا أو ابتزازًا من المتحرش.
اتُهم محمد صلاح بدعم التحرش الجنسي بعد تصريحاته عن ضرورة إعطاء فرصة ثانية للمتحرش!
المشهد برمته يدعو للبكاء، غالبًا عزيزي القارئ أنت تعلم ما حدث لعمرو وردة، الذي تم استبعاده من المنتخب ثم عودته سريعًا بعد تدخل عدة أشخاص على رأسهم اللاعب الشهير محمد صلاح الذي نال قدرًا مستحقًا من الانتقاد من الصحافة العالمية، فقد اتهم بدعم التحرش الجنسي، خصوصًا بعد تصريحاته عن ضرورة إعطاء فرصة ثانية للمتحرش!
اقرأ/ي أيضًا: مصر.. من التحرش إلى التفجير
صدقًا لا أعلم كيف يكون للمتحرش فرصة ثانية، فالمتحرش مجرم وعقوبته حق للمجتمع كما هي حق للضحية، ولا بد من تعويض الضرر الذي لحق بالمجتمع نتيجة لهذا الفعل الإجرامي الذي لا يقل بشاعة عن أي فعل مثل القتل أو السرقة، فكلها أفعال مجرمة تعاقب عليها العدالة العمياء، التي تقول لنا أن المكان الطبيعي لعمرو وردة هو سجن طرة وليس استاد القاهرة.
اقرأ/ي أيضًا: