اختزل الروائي محمد جعفر في روايته "لابوانت.. جدوا قاتلي" (الدار العربية للعلوم، 2019) الجزائر الرسمية كلها، وعلى امتداد 160 صفحة في ليلة واحدة، بمكتب حكومي ببناية بوسط مستغانم، حيث تضع مفارقات لا أحد يعرف درجة وجاهتها علي، الرجل المسؤول في مواجهة فصل معاد من التاريخ، لكن على نحو مختلف، كان عليه بحكم موقعه في المسؤولية أن يتصدى أو يمتص الغضب الشعبي، مظاهرات 5 تشرين الأول/أكتوبر 1988، التي أظهرت أن الطريقة التي أديرت بها الأمور منذ الاستقلال قد وصلت لحدودها وأن التغيير بات ضروريًا.
في روايته "لابوانت.. جدوا قاتلي"، يضع محمد جعفر الجزائر الرسمية كلها في مكتب حكومي
علي البطل المنقسم الدعي الذي يسهر على تحويل كنيسة إلى مسجد، ويظهر البر بوالده، هو نفسه من يرتاد مبغى ويتحرش بابنة صديقه القديم التي جاءت تطلب مساعدته للحصول على وظيفة، والتسلقيّ والمغتني على حساب الوظيفة، المحتكر للسلطة والطامع في المزيد منها، المستند في بناء مجده على تاريخ تشوبه شوائب كثيرة. تمثيل لجزائر رسمية موغلة في رسم صورة عنها تعاكس حقيقتها، الدولة اليعقوبية المتسلطة والبعيدة عن قيم الثورة وأهدافها بتقادم العهد، المعتصمة دومًا بالماضي وبتاريخ لم يعد يؤمن بعصمته أحد. والبطل مثال عن جزء من نخبة خانت الأمانة بعد الاستقلال واتخذت البلد كغنيمة.
اقرأ/ي أيضًا: محمد جعفر.. الألم ابتكار
في تشرين الأول/أكتوبر آخر من عام 1961، شارك علي في مظاهرات خرجت فيها الجالية الجزائرية بباريس وواجهتها شرطة موريس بابون بوحشية.. يظل مرابطًا بمكتبه في تلك الليلة ليستعيد رغمًا عنه وتحت وطأة القلق والأرق تاريخًا شخصيًا زاخرًا، بدءًا بالدراسة مرورًا بعمله في ملهى ووصولًا إلى انضمامه إلى جبهة التحرير ومشاركته في الثورة، لفظه زملاؤه وأصبح غير موثوق به لشبهة أنه قد انهار تحت التعذيب أثناء جلسة تحقيق واعترف للفرنسيين بمكان علي آخر –علي معاش بحي لابوانت وتمكنت على إثر ذلك قوات الاحتلال الفرنسي من القضاء عليه رفقة آخرين. برأته محكمة الثورة لكن نظرة رفاق الجهاد لم تتغير.
يتذكر أنه سافر إلى باريس واستعان بحركي عميل قديم، ليمحو أرشيف التحقيقات معه، يريد أن يبيض سجله الشخصي من شبهة قد تقف حجرة عثرة في طريق صعوده نحو القمة. طمع في أن يدفن ذلك الجزء المشين من تاريخه، ليغدو رجلًا فوق الشكوك والشبهات في نظر الناس، لأن التاريخ تحول إلى أداة للشرعية ولإحراز المناصب والمكاسب.
الطريقة التي أديرت بها الأمور منذ استقلال الجزائر وصلت لحدودها وبات التغيير ضروريًا
لكن ينتهي إلى أن يظهر على حقيقته كاملة أمام الجميع ساعة حاول متظاهرون الاقتراب من مكتبه ببناية كولونيالية ورثتها الجزائر المستقلة عنها، يخرج مسدسه ويهم بإطلاق النار على الجموع، تمامًا كما فعل رجال موريس بابون لما قتلوا الجزائريين عندما خرجوا لكسر حظر التجوال المفروض عليهم في باريس. قتلوهم وعذبوهم وأغرقوهم في نهر السين، وأرسلوا بعضهم إلى الجزائر على متن سفينة بائسة تسمى ربيبليكان أو الجمهورية.
اقرأ/ي أيضًا: