في سنة 1927 عرفت مصر حدثًا تاريخيًا وفكريًا كبيرًا على إثر صدور مذكرة عن السيد محمد نور رئيس نيابة مصر يحفظ فيها القضية التي تم رفعها ضد الدكتور طه حسين من طرف بعض الجهات الدينية المحافظة على إثر صدور كتابه "في الشعر الجاهلي"، حيث تقدم بعض شيوخ وأساتذة الأزهر وكذلك بعض نواب الأمة بلاغات إلى النائب العام المصري يتهمون فيه عميد الأدب العربي بإصدار كتاب يكذب فيه القرآن صراحة وينسب الخرافة والكذب إلى هذا الكتاب السماوي ويطعن فيه على نبي الإسلام.
وبعد تحرك النيابة العامة ودراسة الموضوع والتحقيق مع طه حسين، أصدر النائب المذكور مذكرة تتضمن مرافعة فكرية وأدبية حول الأدب وطريقة التعامل معه بعيدًا عن كل خلفية إيديولوجية تقرأ الإبداع بلغة السياسة أو بلغة الدين. جاء في هذا القرار الشجاع: "وحيث أنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها. وحيث أنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر، فلذلك "تحفظ الأوراق إداريًا..".
بما أن الله قد قرر حرية الاعتقاد فلا شك أنه لا إكراه على اعتناق فكر ديني بدعوى أنه هو الصحيح المستقيم الأورثوذوكسي
وقد اعتبرت هذه المذكرة آنذاك حدثًا فكريًا بامتياز خاصة عندما صدرت في كتاب نشر على العموم. وتم اعتباره وثيقة تنويرية تدل على مرحلة مهمة من تاريخ مصر المعاصر.
بعد مرور خمسة وثمانين عامًا على قضية عميد الأدب العربي، نفاجأ وفي شهر أكتوبر 2011 بتقدم أحد المدعين إلى القضاء المصري بشكاية يتهم فيها مجموعة من الفنانين وعلى رأسهم الكوميدي المصري عادل إمام وطاقمه الفني" الذين –حسب المدعي- تعدوا على الإسلام والمسلمين باستغلالهم الدين في أعمالهم لترويج أفكار متطرفة، بقصد إثارة الفتنة وتحقير وازدراء الدين الإسلامي عمومًا، والجماعات الإسلامية خصوصًا، مما يضر بالوحدة الوطنية."
عندما عرضت القضية على أنظار المحكمة كان القاضي السيد أحمد سميح واضحًا وحاسمًا في موقفه الذي ضمنه المذكرة التفصيلية والتي تعتبر وثيقة تاريخية فارقة في تاريخ مصر الحديث بحيث خلص فيها إلى عبارة دالة: "لاعقاب على خيال" ، لأن محاكمة الإبداع ينبغي أن تكون محاكمة فنية وأدبية وليست محاكمة سياسية تخلط بين الأوراق وتسعى إلى إضفاء طابع القداسة على سلوكات ومواقف البشر. كما أن "حرية الرأي مكفولة ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون والنقد الذاتي والنقد البناء ضمانًا لسلامة البناء الوطني، كما أن القصد ليس حماية الأفكار والعقائد ومن ثم منع مناقشتها والجدال فيها. ولا حماية العواطف المستثارة بطبيعتها إذا ما حاول أحد الاقتراب من ثوابتها الفكرية خاصة الدينية منها، وهو ما يناقض الأسس التي قامت عليها الأديان من دعوى للتفكر وتحدي ما هو ثابت من معتقدات دينية كانت راسخة لدي الشعوب التي نزلت عليها؛ حدث ذلك في فجر المسيحية والإسلام كليهما. فقال كل منهم لرسوله: "بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" (البقرة: 170).
ومن ثم فإن الحماية ليست للأفكار، فالأفكار لا يحاربها سوي الأفكار، وليست للعواطف التي تعمل علي حماية تلك الأفكار، فالحجة بالحجة، ولا إكراه في الدين، وإنما الحماية القانونية للوحدة وتجنب الفتن، أو للحريات في ممارسة العقائد طالما لم تجرح الآداب العامة في المجتمع، فالمصلحة المحمية هي مصلحة المجتمع من حيث سلامته ولا سلامة لمجتمع إلا بالتعددية وحرية الفكر في إطار من السلم والتعايش المشترك، ففي الاختلاف إثراء، ولا حصانة لفكر ديني؛ وإنما الحصانة للدين ممن يستخدمونه لمآربهم الشخصية."
إن قارئ المذكرة يجد نفسه أمام فكر تنويري عبر عنه قاض وباحث في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية التي تميزت في عصورها الذهبية بالدعوة إلى حرية العقيدة "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وبما أن الله قد قرر حرية الاعتقاد فلاشك أنه لا إكراه على اعتناق فكر ديني بدعوى أنه هو الصحيح المستقيم الأورثودوكسي والحجر على تيار فكري ضد آخر، مما يعد مخالفًا لمقاصد الشريعة.
ومن ثم فإن التعرض بالنقد لتيار ديني لا يعد جريمة وقد ذهب القاضي سميح في مذكرته أبعد من ذلك حينما صرح بأن الشريعة قد استبشعت المرتد عن الإسلام وتوعدته بأشد العقاب من دون نص على عقوبة محددة في الدنيا، وقد نبه الكثير من الفقهاء بأن قتل المرتد بالإضافة إلى استناده إلى حديث غير متواتر فإن هذا الفعل يغلق الباب أمام التوبة والعودة إلى الإيمان، في حين أن باب التوبة دائمًا باب مفتوح.
اقرأ/ي أيضًا: