تأييدنا للغرب أو لروسيا في هذه الحرب الخطيرة لا يقدم ولا يؤخر. واقع الأمر أننا، نحن شعوب هذه المنطقة ودولها، لم نخرج من هزيمة أمتنا التي منينا بها في الحرب الأولى واستكملنا شروطها في الحرب الثانية. ومنذ تلك العقود الموغلة، ما زلنا نراوح في أمكنتنا في الصفوف الخلفية للعالم، ونحاول جهدنا، بكل العنف اللازم، أن نخفف أعداد المنتظرين على رصيف العولمة والعالم، علنا نجد مكانًا في حافلتها لمن بقي منا. نظمنا حروبًا أهلية لم تنتج إلا هجرات واسعة وقتلى بمئات الألوف. واقتتلنا على شعارات وكليشيهات لم نكن نفقه منها شيئًا، ولم ندرك يومًا عمقها. أردنا أن نكون اشتراكيين، وديمقراطيين، وإسلاميين، وعربًا، وشرق أوسطيين، وشرقيين، وغربيين. ولم ننجح في الانتماء إلى أي من هذه الروابط. هذا إذا كانت تلك الروابط مفتوحة الأبواب للراغبين في ركوب حافلتها.
خضنا حروب استقلال لم تكن في حقيقتها إلا حروب تفتيت الإمبراطوريات التي كانت قائمة في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين
واقع الأمر أيضًا، أننا خضنا حروب استقلال، لم تكن في حقيقتها إلا حروب تفتيت الإمبراطوريات التي كانت قائمة في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. في هذا المسعى، كنا على السوية نفسها التي كانت عليها شعوب الإمبراطوريات الأوروبية المهزومة والمنتصرة على حد سواء. إمبراطوريات القرن التاسع عشر تفككت على أيدي المنتصرين في الحربين العالميتين. ذلك أن صناع القرار في تلك الدول الكبرى اعتقدوا، على الأرجح، أن الوسيلة الأنجع لمنع الإمبراطوريات من تغذية أطماعها، تتلخص بتفكيكها إلى دول صغيرة وتأسيس هويات قومية مستعجلة. والحق إننا دخلنا في هذه المطحنة، ونحن ندغدغ آمالًا عريضة، ونحلم بمستقبل مشرق. تفككت إمبراطوريات القرن التاسع عشر تباعًا، بعضها بإرادة المنتصرين، وبعضها تفكك بناء على رغبتهم بالتخلي عن العالم "المتخلف" الذي يكلف هذه الإمبراطوريات أكثر مما ينتج. ولم تمض سنوات كثيرة قبل أن نكتشف أن الإمبراطوريات المنتصرة التي تحولت دولًا كبرى باتت تملك مفاتيح مستقبلنا. إذ لم تكن القاهرة أو بيروت في سبعينيات القرن الماضي تطمح في مستقبلها أن تكون أكثر من ماضي باريس أو لندن. كانت بلادنا تجتهد على نحو مضن لتتحول في المستقبل إلى ما هي عليه الدول الكبرى الآن. وعليه احتكرت تلك الدول نظرتنا إلى المستقبل وقررت لنا كيف نسير باتجاهه.
اقرأ/ي أيضًا: في هجاء الأمم
أسرد هذا كله وفي ذهني ثمة هؤلاء الذين يدعون لنصرة روسيا في هذه الحرب. روسيا التي يخوض رئيسها حرب استعادة إمبراطورية القياصرة. وهو الذي يردد كل حين أن قرار البلاشفة جعل أوكرانيا دولة قائمة برأسها كان خطأ تاريخيًا كبيرًا. ما يعني أن سيد الكرملين، وهو مبنى إمبراطوري، يريد أن يعيد التاريخ إلى ما قبل القرن العشرين. إلى زمن الإمبراطوريات الكبرى في الشرق والغرب.
الدعوة لنصرة روسيا أو الغرب في هذه الحرب لا تقدم ولا تؤخر. لكن هذا العجز لا يمنعني من الأمل بأن يفشل المسعى الروسي فشلًا تامًا. لأن هذا المسعى أولًا، يريد أن يعيدنا إلى نهاية حقبة تاريخية، مستكملًا حروبًا أثقلت كاهل البشرية لعقود وما زات تلقي بثقلها على مستقبلها.
ولأن هذا المسعى ثانيًا، لا يملك من مقومات استعادته ما يقيم أوده. فهذه بقايا إمبراطورية تعيش وتسعى في ظل الغرب وكنفه. ذلك أن الغرب اليوم هو من يملك أحصنة المغول المعاصرة. ولن تستطيع أي إمبراطورية أن تخرج عن سلطاته، ماليًا، وثقافيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا. فهو من يقرر لنا ما نأكل وما نرتدي من ثياب، وما يجدر بنا الدفاع عنه وما يجدر بنا إدانته. حتى الصين، الصين التي تظهر لنا كقارة قائمة برأسها، لم تنجح في الادعاء بأن نظامها السياسي أفضل من الأنظمة الغربية الرأسمالية، بل ويذهب مفكروها وقادتها إلى التصريح بأن بلادهم لم تنضج كفاية لتعتمد النظام الديمقراطي كنظام حكم.
ولأن هذا المسعى ثالثًا يحتاج لكي يحقق نصره، أن يقيم حروبًا إضافية، سوى تلك التي يفترض أن تنشأ بين إمبراطوريتين. فالمسعى الروسي كي ينجح يحتاج عصرًا طويلًا من الحروب الصغيرة، بحجم الحرب الأوكرانية، لكي تصبح الإمبراطورية مؤهلة لهزيمة الإمبراطوريات المجاورة.
لم تكن القاهرة أو بيروت في سبعينيات القرن الماضي تطمح في مستقبلها أن تكون أكثر من ماضي باريس أو لندن
ولأن هذا المسعى رابعًا سيضعنا فيما لو حقق نصرًا شاملًا، أمام تحديات لم نعد نستطيع، كبشر، مواجهتها. فهذه إمبراطورية تطمح لقيادة العالم، لكنها لا تملك من معلومات هذا العالم ما يكفي لمعرفة تاريخها نفسه. (كل معلومات العالم محتكرة في خوادم الطرف الآخر). وتحسب أنها قادرة على إدارة العالم، في حين أن عصب الحياة المعاصرة المتمثل بالنظام المالي يقع كليًا تحت سيطرة خصمها. هذا ومعلوم أن الابتكارات والصناعات الحديثة كلها تنشأ وتترعرع خارج ديارها. إذ ما الذي يعنيه انتصار روسي على العالم غير أننا سنجد أنفسنا فجأة من دون قدرة على تخزين سلعنا لأن الصناعة الروسية، إذا كان ثمة صناعة حية بعد، لا يمكن أن تنتج ما يكفي من ثلاجات لتخزينها؟
اقرأ/ي أيضًا: العالم خارج نفسه
في الخلاصة: الأمل في خسارة روسيا هذه الحرب قد يجنبنا أهوالًا كثيرة من تلك التي تحل بعد انتهائها. أما الانحياز الإنساني والثقافي والفكري، والتفضيل بين ديمقراطية وأوتوقراطية وأوليغارشية فلا أقيم له وزنًا في هذه المعمعة الكبرى. ذلك أن كل هذه الإعلانات الفاقعة، غربًا وشرقًا، لم تنجح في جعل أهل شنغهاي أو موسكو أو بالتيمور يتمتعون بحياة كريمة تحت سقف النظام.
اقرأ/ي أيضًا: