تتناقل وسائل الإعلام منذ الرابع من أيار/مايو المنصرم أخبارًا عن تفشٍ جديدٍ لمرضٍ نادرٍ، علمًا بأنَّ جائحة كوفيد-19 لم تنتهِ بعدُ. أعادت أخبار انتشار مرض «جُدَرِيُّ النِّسْناس» (Monkeypox)، والذي يقتصر عادةً على وسط أفريقيا وغربها، أصداء أوائل عام 2020، مع مخاوف من حدوث جائحةٍ جديدةٍ تنتشر كالنار في الهشيم.
استعملت وسائل الإعلام مصطلح "جدري القرود" من غير تحقق كافٍ
استعملت وسائل الإعلام مصطلح "جدري القرود" من غير تحقق كافٍ، فالمعاجم الطبية تُجمع على أن المقابل الصحيح لمصطلح "Monkeypox" هو جدري النسناس، ولكن يظهر أنَّ العرب ساوت قديمًا بين تسمية السعدان والنسناس والقرد (علمًا بأنها استخدمت النسناس للإشارة إلى نوعٍ من الكائنات الأسطوريَّة أيضًا). لكن مع تقدُّم البُحُوث والاكتشافات في علم الحيوان، وتفرقة الغرب بين "Ape" و"Monkey"، جرت العادة في زمننا على جعل قرد تُقابل "Ape" وهي الرئيسيَّات الكُبرى فائقة الذكاء عديمة الذيل، مثل الغوريلا والشمبانزي والسعلاة (إنسان الغاب)، وجعل سعدان ونسناس تُقابلان "Monkey" وهي الرئيسيَّات الصغيرة ذات الأذيال محدودة الذكاء.
يحدث جدري النسناس عبر عاملٍ معروف، على عكس سارس-كوف-2 المُسبب لجائحة كوفيد-19، لأنَّ فيروس جدري النسناس يُتشابه مع فيروس الجدري المعروف الذي دُرِس بكثافة منذ عام 1958. ولكنَّ الأخبار السيئة هي أنَّ المرض إذا ما تُرك دون علاج، فإنَّ معدل وفياته يتراوح بين 3-10% من مجمل الإصابات.
كان لدينا متسعٌ من الوقت لفهم كيفية انتشار المرض ولمعرفة الأدوية الفعالة ضده، كما نعلم أيضًا أنَّ لقاح الجدري (الذي حصل عليه معظم البالغين فوق سن الخمسين عندما كانوا أطفالًا) يوفر حمايةً جيدة تصل إلى 90%، لذلك نحن على استعدادٍ أفضل بكثيرٍ هذه المرة.
توجد حقائق إيجابية متعددة أيضًا، تحصل العدوى في حالات الاتصال المباشر الوثيق، وذلك على عكس كوفيد-19. إضافةً لذلك، لا يُمكن للمرضى نقل العدوى إلا بعد ظهور الأعراض عليهم. لذلك فإنَّ تجنب الاتصال المباشر مع الأشخاص الذين يعانون مؤخرًا من طفحٍ جلديٍ أو حمًى مريبة سيقلل من خطر الإصابة بالمرض تقليلًا كبير. وهذا هو السبب في أنَّ تفشيات جدري النسناس عادةً ما تكون صغيرةٍ ويمكن السيطرة عليها، فهو مرضٌ ضعيف الانتشار. يُمكن انتقال العدوى أيضًا من الحيوانات المصابة، خصوصًا القوارض الأفريقية، أما النسناس فقد اكتسب سمعةً سيئةً لأسبابٍ تاريخية، ولكنه ليس الحامل الرئيس للمرض.
تكمن مشكلة التفشي الحالي في اختلافه عن التفشيات السابقة، فلأول مرةٍ في التاريخ، يمتد تفشي جدري النسناس إلى أكثر من 30 دولة مصيبًا أكثر من 600 حالة حتى وقت كتابة هذا النص، ولكنَّ الجانب الإيجابي بأنه لم يُبلّغ عن أي وفياتٍ حتى الآن. كما تُشير المصادر إلى أنَّ أول حالةٍ مؤكدةٍ كانت لدى شخصٍ بريطانيٍ سافر إلى نيجيريا، ورُبما أصيب بالفيروس بعد الاتصال المباشر مع حيوانٍ بري، ولكنَّ سلسلة انتشار المرض غير واضحةٍ بعد ذلك. تُرجح مصادر أخرى بأنَّ الحالات كانت منتشرةً فعلًا في أوروبا خلال الأشهر الماضية.
4 فرضيات لانتشار المرض
توجد عدة فرضياتٍ لتفسير الانتشار الحالي غير المسبوق، أولها بأنَّ فيروس جدري النسناس قد اكتسب طفرةً جديدةً جعلته أكثر عدوى، وذلك كما حصل مرات متعددة مع فيروس كوفيد-19 خلال العامين الماضيين. ولكن لا يبدو أن هذا هو التفسير الحقيقي؛ وذلك لأنَّ تسلسل المجموع المورثي (الجينوم) الفيروسي لم يَكشِف حتى الآن عن أي تغييراتٍ كبيرة، فهو يبدو مطابقًا لتسلسل الفيروسات المنتشرة في غرب أفريقيا (وهي الأقل فتكًا ضمن الفصيلة بمُعدَّل الوفيات 1% فقط). وثانيها الاتصال الجنسي، باعتباره طريقةً جديدةً لانتشار المرض لم يُبلَّغ عنها سابقًا، ولكنَّ العلاقات الجنسية عادةً ما تحتاج إلى أن يكون الأفراد على مقربةٍ بعضهم من بعضٍ، لذلك قد يكون انتشار المرض حصل عبر علاقة جنسية عابرة. وثالثها هي فرضيةٌ مثيرة للقلق تنص على أنَّ كوفيد-19 قد ساهم بإعداد البشرية لتفشي أمراضٍ أخرى، فخلال جائحة كوفيد-19، انخفض تعرض الأفراد لمسببات الأمراض المختلفة، بسبب الإغلاقات والتباعد الاجتماعي والأقنعة وغسل اليدين وغيرها، مما أدى إلى إضعاف المناعة وزيادة إمكانية الإصابة بالكائنات الحية الدقيقة التي كانت غير ذات خطورة سابقاً.
رابع الفرضيات هي أن الإصابات الجديدة اللاحقة للإصابة بفيروس كوفيد-19 تتخذ سلوكًا غير متوقع، فإذا أصيب شخص ما بكوفيد-19، فإن الإصابات اللاحقة الأخرى تتصرف تصرفًا مختلفًا وتعطي نتائج غير متوقعة. قد يكون انتشار التهاب الكبد الحاد عند الأطفال مؤخرًا مثالاً آخر على ذلك. لا توجد طريقة لمعرفة فيما إذا كان لكوفيد-19 أية علاقة بتفشي جدري النسناس، وربما لن يُعرَف ذلك أبدًا، لكن هذا الاحتمال مثيرٌ للاهتمام بقدر ما هو مُخيف.
ماذا الآن؟
يُحتمل أن يختفي تفشي مرض جدري النسناس خلال وقتٍ قصيرٍ نسبيًا، وذلك نظرًا لخصائص الانتشار التي ذكرت سابقًا. كما قد يحدث هذا دون ترك ضحايا مميتة، وذلك إذا حافظنا على المعدل نفسه. ويبقى السؤال الرئيس هل ستنتشر المزيد من الأمراض المعدية النادرة خارج العتمة إلى الضوء خلال الأشهر المقبلة بصفتها أثرًا جانبيًا بعيدًا للجائحة؟ وهل سيكون أحدها مشكلة حقيقية على نطاقٍ عالمي؟ لنأمل أن تكون الإجابة لا.