ليست المرة الأولى التي يواجه فيها حزب التجمع الوطني الديمقراطي تحديات كبيرة وخطيرة في الداخل الفلسطيني عام 48، من صلب مبادئه وأهدافه التي عمل على إنجازها على مدار عقدين كرد على التحديات التي نجح فيها بإعادة الرابطة القومية والوطنية لسكان البلاد الأصليين وحتى بدأ يسري التحدي لأطروحات الصهيوني الذي وجد أمامه العنصر الفاعل والمقاوم لطمس ما تبقى من ملامح أصحاب الأرض، إذ كان لاستراتيجية عمل التجمع الفلاح في جوهر ما، هدف إليه برنامجه وعمله إن كان على مستوى المؤسسات أو القيادات والكوادر والنشطاء، ميزتهم جميعًا النزوع الجماهيري والتشبث بالهوية الوطنية والقومية عنوانًا للانتماء والتحرر فغدا ظاهرة معبرة عن إرادة شعبية ووطنية سياسية اجتماعية أعادت الارتباط بمفهوم المواطنة والهوية والديمقراطية والانتماء كعنوان أساسي لمواجهة الأسرلة والإذابة.
من المهم التذكير بأن تجربة التجمع، كحزب ومؤسسة ومشروع معادٍ للأسرلة وطمس الهوية يرتكز أساسًا على أرض الواقع وعلى قاعدة الفهم المستمر لطبيعة الصراع مع الهوية والانتماء
استراتيجية التحديات التي وضعها التجمع، بنيت على أساس أن تكون المُمسك بطرق النضال للحركة الوطنية الفلسطينية كنسيج عضوي واحد في مواجهة مخاطر السياسات الإسرائيلية التي تنبهت لخطورة عمل التجمع منذ بداية انطلاقة مشروعه وعلى نحو ضمني فصلت المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية جملة القوانين المشكلة لعناصر استهدافه، وظن الإسرائيلي أن تلفيق التهم الأمنية لمؤسس التجمع الدكتور عزمي بشارة سيرغم الحزب الإقرار بواقع الهيمنة الإسرائيلية، ومن ثم ملاحقة قياداته لخلق شعور بالإحباط واليأس عند جمهور صاحب الأرض، كما هو حاصل في حالة الملاحقة السياسية المستمرة من قبل المؤسسة الإسرائيلية.
اقرأ/ي أيضًا: الهجوم على "التجمع".. نتنياهو يحاول إرضاء قبيلته
لماذا التجمع؟
من الخطأ الادعاء أننا سنغطي كل جوانب الاستهداف التي يتعرض لها أهلنا وحزب التجمع الوطني الديمقراطي، ونوابه في الكنيست الإسرائيلي، وبدون شك هناك تعقيد مركب تعبر عنه المؤسسة الصهيونية ينطلق من تعقيد واقع الشعب الفلسطيني فوق أرضه في المناطق المحتلة عام 48، الا أننا وبكل تواضع نثير بعض الإشكالات ونضيء بعض الجوانب التي من المفترض أن تسترعي انتباه القوى والفصائل الفلسطينية الديمقراطية والإسلامية والقومية، فعندما يشرع المشرع الصهيوني قبل عامين إبعاد حنين زعبي لمدة ستة شهور عن جلسات الكنيست بسبب تصريحاتها الرافضة وصف أبناء جلدتها بالإرهابيين ووصفها جيش الاحتلال بجيش يمارس الإرهاب.
لقد اعتبر كما في السابق ملاحقة سياسية لممثلي أصحاب الأرض الأصليين وفضحًا لزيف الادعاء الديمقراطي والبرلماني الذي تتشدق به المؤسسة الصهيونية والتي دفعت التجمع لأن يظهر في مجتمع معاكس لادعاءات إسرائيلية مزيفة. وفر التجمع بعده الاجتماعي والفكري ارتباطًا ببديهة واضحة مرتبطة بمجابهة الاحتلال ومشاريعه ومقاومة طمس الهوية واللغة والتراث والأسرلة والتأكيد على انتمائه العربي القومي مستندًا إلى مساحة زمنية طويلة مبعدًا عنه صفة الآنية التكتيكية، للأسف الشديد وحده الإسرائيلي اكتشف جوهر وفحوى نضال التجمع فكان نصيبه "الأوفر" من جعبة الاستهداف العنصري. ولأن للتجمع فهمًا أعمق لطبيعة العقل الصهيوني يتعرض نوابه وممثلوه ومنتسبوه لحرب عنصرية تطالب بتصفية الوجود الفلسطيني.
تعيدنا حملة الاعتقالات الجماعية في صفوف التجمع ومن ثم تصدعها مع الأكاذيب المسوقة، إلى الأهداف التي بنى عليها الإسرائيلي حملته لمحاولة تحطيم القيم البنائية للتجمع المحرضة على التحرر السياسي والاقتصادي والمساواة وتمجيد الكرامة على المستوى الشخصي والمجتمعي والوطني التي نادى بها، الأهم أيضًا أن استهداف التجمع في "مناخ مناسب" في بعضه العربي والفلسطيني يقوم على النكاية السخيفة من مواقف مؤسس التجمع ومن نضالات الحزب ومبادئه التي احتل فيها مكانته في صدور أصحاب البلاد الأصليين داخل وطنهم وشتاتهم في أرجاء المعمورة واستقطب أعدادًا واسعة من جمهور الشباب والطلبة.
اقرأ/ي أيضًا: إسرائيل كدولة لناس كثيرين ليسوا مواطنيها
وهنا لابد أن تثار التساؤلات الجدية، هل استهداف التجمع جاء مع عملية تكييف "سلبي" لبعض المواقف مع غياب ردود الفعل الفلسطينية الرسمية والعربية، حقيقة أن البعض الشامت بحملة الاعتقال والترهيب على التجمع لم يدرك بعد عقدين أن بنية المؤسسة والنزوع الجماهيري شكلت نسقًا وبنيانًا يسيج صبار الفلسطينيين بالداخل الفلسطيني بشكل مختلف عن آلية الفعل الفلسطيني "النضالي" مع ولادة الشكل الحزبي للتجمع مغردًا خارج سرب الأسرلة، وبوعي التجديد والبناء العملي والمجتمعي مستندة إلى حلقات مترابطة من العمل الجماعي تجعل من شوكة الحركة الوطنية في الداخل الفلسطيني عصية على الاقتلاع من حلق المحتل، وهو ما تدركه المؤسسة الإسرائيلية التي تحاول بين الفينة والأخرى اختلاق الأكاذيب والتهم والترهيب على قيادات الحركة الوطنية في الداخل الفلسطيني بما يناسب أغراض ومصالح المؤسسة الصهيونية.
من المهم التذكير بأن تجربة التجمع، كحزب ومؤسسة ومشروع معادي للأسرلة وطمس الهوية يرتكز أساسًا على أرض الواقع وعلى قاعدة الفهم المستمر لطبيعة الصراع مع الهوية والانتماء، وأن فهمه جاء أساسًا لرفض ومواجهة الرضوخ والانقياد لضغط الواقع لذلك لا يتهيب من مواجهة الأباطيل الصهيونية المتصدعة، لأن التجمع أيضًا لديه إجابات عن أسئلة سكان البلاد الأصليين وأهداف قابلة للتحقيق وأخرى أُنجزت.
يخوض التجمع فصلًا جديدًا من معركته السياسية مع المحتل، وعليه تجد الحركة الوطنية الفلسطينية داخل الخط الأخضر نفسها أمام مرحلة جديدة لن تنتهي بحظر الحركة الإسلامية أو ملاحقة قيادات أو نشطاء في أحزاب "متناقضة" فيما بينها لكنها واضحة بالنسبة لقانون الخوف والترهيب الإسرائيلي الذي يحاول فرضه على السكان الأصليين وهو ما يستدعي تطوير حالة الالتفاف حول التجمع كقاعدة ضرورية لعمل الحركة الوطنية الفلسطينية وأن يتعدى بيان الاستنكار والإدانة لحملة الملاحقة والاعتقال لأن المستهدف العمل السياسي للحركة الوطنية برمتها، الحفاظ على شوكة الفلسطينيين في حلق المحتل تتطلب إلحاحًا بتحمل المسؤولية والدفاع عن التجمع ومثله وقيمه الوطنية، ولا يستقيم هذا إلا إذا اعتمد على ذات حرة تعبر عن وعي سياسي وطني.
أخيرًا ما يثير الأسى والاستهجان، أن ما يتسرب للعقل السياسي الفلسطيني والعربي، أن الفلسطيني المؤمن بعملية سلمية هو القائم بين الضفة وغزة، وأن ملامح الدولة الفلسطينية ستقام هناك، وأن صفة الفلسطينية نزعت عن شتات الفلسطينيين في أصقاع الأرض، غير أن الفلسطيني المقاوم فوق أرضه لا يزال ينتسب إلى أرض فلسطين، في ترشيحا، والرامة وأم الفحم والرينة وكوكب أبو الهيجا والناصرة، ودير حنا، وسخنين، واللد، وطمرة، والقدس، كلهم يقرعون أجراس الإنذار لأنهم لا يستطيعون الانتساب إلى شيء آخر سوى هوية شعب ووطن إن تخلوا عنه فقد كل ملامحه، وفقدنا كل ادعاء عن جذورنا المتبقية عميقًا في أرض الآباء والأجداد.
اقرأ/ي أيضًا:
استهداف "التجمّع": ما قبله وما بعده
عزمي بشارة.. تعرية ديمقراطية إسرائيل المتناقضة