لن تكون تلك المرة الأولى التي يموت فيها قاسم سليماني، بعد إصابته في إحدى معارك سوريا، ولن تكون الأخيرة على أية حال. لا ينفرد الجنرال الإيراني، بالقدرة على العودة إلى الحياة مرارًا وتكرارًا، وليس ذلك بالتأكيد لمهارة خاصة به أو لتوفيق إلهي استثنائي لبطل عسكري فريد. الجنرال المتنقل بين المعارك في سوريا والعراق ممثلًا عن الحرس الثوري الإيراني، يتبع خطى الكثير من السياسيين، الذين ظلت تلاحقهم شائعات الموت، إلى آخر لحظاتهم. وليس ذلك فقط، لرغبة جمعية في الخلاص، يتم تحويلها إلى حقيقة مؤقتة، سرعان ما تزول مرة أخرى.
يرى الناس أنه عندما ينتهي دور أحد الأبطال، أو يرتكب خطئًا جسيمًا، يجب أن يحدث تطور دراماتيكي لمصيره، أو سيضطرون لصنع ذلك بأنفسهم، بالشائعات
يتخيل الناس أنفسهم كأبطال في رواية ما، كما يقول ديستوفكسي، وينظرون للعالم أيضًا كرواية كبرى، أو كمسرحية، وعلى هذه المسرحية أن تحقق الشروط البنيوية للعمل الدرامي، وإلا بدأ الناس بالاستغراب، ثم بتحويل هذه المسرحية -رغمًا عنها- إلى المسرحية التي يريدون أو كما ينبغي أن تكون، يفعلون ذلك بالشائعات، برسم ظلال العالم كما كان يفترض السياق الدرامي له، أو كما يمكن أن تكون حبكة روائية متقنة، أو نهاية كلاسيكية لملحمة شعرية عظيمة.
لذلك، يرى الناس أنه عندما ينتهي دور أحد الأبطال، أو يرتكب خطئًا جسيمًا، يجب أن يحدث تطور دراماتيكي لمصيره، أو سيضطرون لصنع ذلك بأنفسهم، بالشائعات.
في العام الذي تلا سقوط مبارك، انتشرت شائعات شبه يومية، شبه مؤكدة، عن موته، أو دخوله في حالة غيبوبة، أو تعرضه لوعكة صحية كبرى، لم يكن ممكنًا في أذهان الناس، أن تحدث انتفاضة عظيمة، تزيحه من منصبه، ثم يظل هو يمارس الحياة بعادية، يتعالج، ويحاكم، وتتم تبرئته، ويعيش مع أولاده في سلام، لا يتقبل الخيال الروائي ذلك، يجب أن يحدث له شيء عنيف ومفاجئ، يلبي الاحتياجات المعنوية لكل هذه الجموع، كان الناس عطشى إلى هذا التطور التراجيدي في المسرح، أن يموت الرئيس بسرعة بعد سقوط نظامه، هذه الحاجة المعنوية لهذا التطور، كانت واضحًة جدًا، للدرجة التي جعلت أطرافًا من السلطة، تستخدم شائعة موت مبارك، كلما احتاجت إلى التشويش على خطأ معين يحدث، استخدم المجلس العسكري هذه الحيلة عدة مرات، لكن أبرز الأمثلة على ذلك، عندما تم تسريب صوتي لاجتماع حدث بين السيسي وبعض قيادات الجيش، وحدثت ضجة كبرى، فاضطر الإعلام القريب من السلطة، أن يعلن سريعًا خبر وفاة حسني مبارك، لكن الأمر كان فجًا جدًا، للدرجة التي استعدت تهكم قطاعات واسعة من الناس من هذا الخداف غير المتقن، فتم إعادة مبارك للحياة مرة أخرى، ومنذ هذه الحادثة، قلت كثيرًا حوادث وفيات مبارك.
بشار الأسد أيضًا، ظل يموت عدة مرات في كل شهر، كلما تفاقمت جرائمه أو كلما ابتعد أي أفق واقعي لسقوط نظامه، لكنه كان يعود للحياة كل مرة، حتى يئس الناس منه. ولتطور الأحداث، وازدياد التدخل الإيراني، قرروا أن يصبّوا اهتمامهم على قاسم سليماني، الذي لا يتوقف عن الموت لأسباب مختلفة، الجنرال الإيراني المشرف على الحرب الطائفية في العراق وسوريا، والمسؤول بالتأكيد عن مذابح لا تحصى بحق المدنيين، لا يمكنه أن يظل يتجول بين الميادين والبلدان، ولا يحدث له أي شيء، يجب أن ينزل عليه غضب السماء هنا أو هناك، لتكون تلك نقطة حرجة في السرد، تغير مسار الأحداث في اتجاه آخر.
لا شيء يجبر الكون على اتباع التقاليد المسرحية، فالملل يمكن أن يفرض نفسه لسنوات طويلة
لكن حسني مبارك وقاسم سليماني، يظلون مجرد هواة في لعبة الموت الموسمي هذه، مقارنة بصاحب الرقم القياسي فيها..بوتفليقه. الرئيس الجزائري، العجوز المريض، الرئيس الصوري، كما يراه الكثيرون، يظل يموت يوميًا، ولكن لسبب روائي مختلف قليلًا عمن سبقوه، يعتقد الناس، أنه قد قام بدوره في المسرحية، وأن المشهد الأخير لدوره قد أتى بالفعل، فلماذا يظل على المسرح، مادامت انتهت فقرته، ولا كلام لديه يقوله، وتسارع الأحداث من حوله يتطلب صعود بطل آخر، خصوصًا لتصورهم أن هذا سيكون بداية فصل مشوق جديد، فلماذا إذن يقف البطل هكذا على المسرح، دون أن يقول شيئًا، المشهد أصبح طويلًا جدًا، ويجب أن يحدث شيء. لكن لا شئ يجبر الكون على كسر الرتابة.
ليس السياسيون وحدهم من يدخلون هذه اللعبة، كان للمطربة صباح في حياتها أيضًا نصيب وافر من تلك الشائعات، هي لم ترضى بنهاية روائية تقليدية تصلح لمطربة من الخمسينيات، كان يجب في نظر الناس للحفاظ على صورتها، أن تعتزل تمامًا في السبعينيات، كما فعل أبناء جيلها، لكن تحديها المتتالي لكبر سنها، زيجاتها المتتالية، أشعر الناس بارتباك، فقرروا كثيرون أن يضعوا حدًا له، بموتها. لم تكن صباح بالتأكيد المعمرة الوحيدة في جيلها، لكنها المعمرة، التي ظلت تصعد على المسرح حتى بعدما رأى الناس أن مسرحيتها هي قد انتهت، وعليها أن تنزوي بعيدًا، إلى أن تموت، فيمصمص الناس شفاههم في حزن سريع مخلوط بنوسطالجيا مؤقتة، ولأنها لم تلتزم بدورها، ظلوا يُميتونها المرة تلو الأخرى.
ما يفوت الناس كل مرة، أن لا شيء يجبر الكون على اتباع التقاليد المسرحية، فالملل يمكن أن يفرض نفسه لسنوات طويلة، والناس قد تضجر وتترك المسرح، ويتحول الأبطال الشباب في المسرح، إلى كهول، لكن دون أن يتغير نتيجة لذلك أي شيء، لا المسرحية ولا الأبطال. كما أن أحد الأبطال يمكن أن ينتهي دوره، دون أن يغادر الخشبة، بل ويمكنه حتى أن يسحب كرسيًا ويجلس في مقدمة المسرح، ليغيظ الجماهير، ليس ذلك فقط، بل يمكن لأحد الممثلين الفرعيين أن يخرج عن دوره، ويضرب زملاءه بالرصاص، قبل أن يوجه مسدسه للجمهور، دون أن يقوم أحد بسحبه من المسرح، الأمور تحدث كما تحدث، دون خطة، ودون وازع، ولا أحد يهتم حقًا برأي المشاهدين، لأنه يظل بإمكانهم أن يصعدوا هم أيضًا، ويقوموا بالأدوار التي يريدون، إن استطاعوا تخطي أمن المسرح، أولًا.
اقرأ/ي أيضًا: