وقعنا في حبّ خاشقجي. نتابع قضيته كأنّه الضحية الوحيدة في التاريخ، مع أنّ إلى جواره، لا سيما في هذه اللحظة الدموية، آلافٌ مؤلّفةٌ من الضحايا.
يأخذ حبّ هذا الرجل شكلًا من الإدمان على متابعة تفاصيل قضيته، وما نتج عنها من مواقف باتت تحكم سياسة الدول اليوم، على الرغم من يقيننا من أنّ هذه الدول تتاجر ما أمكن لكي تكسب ما أمكن. نترك لهم ذلك على أننا نترك لأنفسنا الحق في انتظار العدالة لمرة واحدة، في حياة لم تعرف العدالة مرة واحدة.
الضحية سؤال برسم الجميع، قتلةً وأبرياء على السواء، وليس عليها أن تكون موضع تساؤل
نعرف أسباب هذا الحب. لسنا أمام نجم رياضي لننبهر بمهاراته، ولا حيال مغنٍّ لنعشق صوته. ما نحبّه فيه واضح مثل جملة مفيدة: أطياف العدالة التي تتراءى بوضوح. لهذا لا نريده أن يتحوّل إلى أيقونة فيما تمضي شعوب مقهورة إلى النسيان، ولن نرتكب خطيئة حبّ مظلوم، ففيها من الإساءة ما يكفي لمضاعفة ظلم المظاليم.
اقرأ/ي أيضًا: اغتيال خاشقجي وهوس السلطة بالقتل
كثيرًا ما وُظفت صور الضحايا في إعلامٍ يحترف جعلها وقودًا في طريق مالكيه ومدبّريه إلى السيطرة، إذ يُبرز ضحايا هنا ويحجب ضحايا أخرى هناك، إلى الدرجة التي تتبلبَلُ فيها العقول وترتبك معها الأفئدة، فيسأل السائلون ببراءةٍ دفعت عليها المليارات: من الضحية؟
الضحية سؤال برسم الجميع، قتلةً وأبرياء على السواء، وليس عليها أن تكون موضع تساؤل.
مع ذلك، لم نكن نحتاج صورة جثة حمزة الخطيب المتفحمة لنعرف مستوى الإجرام الذي وصله النظام القابض على عنق سوريا، ولم نكن نريد أن نرى أطفال اليمن لندرك أهوال حرب السعودية وحلفائها.
لعبت الصور أدوارًا في الحالات السابقة وسواها. أخطر ما فعلته أنها جعلت الضحية موسميةً، ليأتي تقدُّم أو ظهورُ ضحية أخرى كافتتاح لموسم نسيان الضحية السابقة.
الآن مع جمال خاشقجي ثمة سرٌّ يمنح صورته قوة خارقة، كونه ضحيةَ حرية التعبير في بلد مستقر، وهي مسألة قابلة لفهم شعوب الأرض، ذلك أنّ سواه من الضحايا مرتبطين بتعقيدات واقعهم السياسي، أو يجري تقديمهم كذلك، ما يحُوْل دون تضامن واسع نظرًا إلى الحاجة إلى فهم خلفيات المشهد الذي أودى بهم.
نحبّه لأنه مات في لحظة براءةٍ كاملة. لأننا نعرف مسرح الجريمة والقتلة بالأسماء والصور، بل بصفحاتهم الإلكترونية. نحبّه لأننا نفهم التجبّر الذي وصل إليه مُصدِرو أمر القتل. نحبه لأننا ندرك نوايا المنتفعين من الجريمة والمستثمرين فيها. نحبّه لأنه صاحب دمٍ لا خلاف عليه. نحبه لأن موته استطاع أن يعرّي نظامًا جمع التدين والقبليّة جمعًا يستعصي الفكاك منه، ليبدو أمام الملأ نظامًا حربائيًّا بارعًا في التمويه والإفساد والغشّ وشراء الذمم.
لم يكن على خاشقجي أن يموت لكي ندرك ذلك، إنما إذا كان موته مفتاحًا للكشف والاستجلاء فعلينا أن نحبّه. وإذا كان موته دافعًا لاقتياد القتلة إلى المحكمة فعلينا أن نحبّه. وإذا كان درسًا جماعيًّا في ألا نصدّق دعايات الأنظمة وآلات إعلامها فعلينا أن نحبّه. وإذا كان سيحصّن آخرين، خصوصًا من زملاء مهنته، من أن يتكرّر معهم السيناريو ذاته، فعلينا أن نحبّه. وإذا كان سيكرّس الطريق المثلى في تكريم الضحايا بمعاقبة الجناة فعلينا أن نحبّه. وإذا كان اختبارًا صارمًا لعقولنا وضمائرنا أنّ جوهر حقوق الإنسان كامنٌ في أن ندافع عنها حتى لو كانت تخصّ الخصوم والأعداء فعلينا أن نحبّه.
ليس ابن سلمان عدو الضحية الأول، فهناك الدول والقوى التي دعمت صعوده، وهناك المزوّرون الذين روّجوه بوصفه بطل هذا الزمان. ابن سلمان وأدوات قتله جزء من مشهد الجريمة، الذي لن يكتمل دون نظرة تنفذ إلى ما يتوارى وراءه، حيث تلوح بقية وجوه الجناة، أبرزها وجه ترامب.
من قتلوا خاشقجي معروفون، فليكن البحث إذًا عمّن يواصلون قتله، ممّن يتضامنون تضامنًا متحفّظًا لا يتعدى تسجيل الحضور، وممن يقسّمون الإجماع حول الاغتيال بأنّ وراء الضجة مكائد، وكأن الجريمة تفصيل نافل لا يستحق مجرد وقفة.
في هذه السنة قتل عدد من الصحافيين حول العالم، لكن تصفياتهم المخابراتية المُحكمة لم تترك مجالًا لأن تصبح ميتاتهم في صلب الرأي العالمي، ولهذا على جريمة القنصلية أن تكون حافزًا على نبش تلك الملفات، وسعيًا إلى تكريم أولئك الضحايا، كما يمكن أن تكون درسًا للصحافي، في العالم العربي على وجه الخصوص، بأنه إما أن يكون حرَّ الضمير وكامل السيادة على عقله، وإما أن ينضم إلى جوقة الذباب الإلكترونيّ.
من قتلوا جمال خاشقجي معروفون، فليكن البحث إذًا عمّن يواصلون قتله بطرق مختلفة
يغيب الجسد. الجسد الذي يفترض أنه جثة الآن. غير أن ذلك لا يغيّب المقتلة. في لحظةٍ من فصول الجريمة المستمرة سنحبّ جاكيت خاشقجي ونظارته وبنطاله، حينما يتولى أحد أعضاء فصيلة الإعدام ارتداءها ليوهم الكاميرات بأن المغدور خرج سالمًا من مبنى القنصلية. وحين تجد الصحافة أن الجسد البديل لم يرتد حذاء القتيل سنحبّ الحذاء.
اقرأ/ي أيضًا: هل تمتلك تركيا تسجيلات لعملية اغتيال خاشقجي؟
أشياء الضحية تستحق أن تكون في متحف، فداخل هذا القميص كانت هنالك أجساد كثيرة، وتحت زجاج هذه النظارة تلمع عيون المظاليم والمقهورين في وجوه القتلة، وستظلّ تواصل اللمعان كأنّه مهنتها، حتى لو انتصروا وزرعوا فيها العماء.
اقرأ/ي أيضًا: