لكي تُجيد التحدّث بلغة أخرى عليك أنْ تُمارسها بشكلّ غير منقطع، وإنْ كنت تعيش في بريطانيا فأمامك سُبل كثيرة، أحدها أنْ تعملَ في مجال التطوّع، حيث يُمكنكَ أنْ تحتكّ بالناس ما يضطرّك للتحدّث بلغتهم، ومع مرور الأيّام ستُصبح الإنجليزية في عقلك الباطنيّ، ويسهلُ عليكَ الإندماج في مجتمعٍ يختلفُ جذريًّا عن مجتمعك الشرقيّ.
في بعض مكتبات بريطانيا، لا يتجاوز سعر الكتاب سعر كيلو البصل!
بحكمِ أنّني أعيشُ في بريطانيا منذُ أكثر من عامين دون القدرة على الاندماج، فقد تطوّعت في أحد المحال التجاريّة التابعة لمنظمة "أوكسفام Oxfam" في مدينة كارديف مكان إقامتي، وهو عبارة عن محلّ لبيع الثياب المستعملة، نُسمّيه في أغلب البلدان العربية: "محل بالة"، ويسميه الإنجليز"Charity Shop" أي محلّ للأعمال الخيريّة، حيث يوجد في كلّ محلّ قسم خاصّ بالكتب، يختلف حجمه من محلّ إلى آخر. كنتُ مسؤولًا عن هذا القسم، أرتّبه وأعتني به، كانَت هنالك تصنيفات للكتب، القسم الأكبر كان لصالح الروايات، قسم آخر للكتب القانونية والفلسفيّة، وقسم لكتب الطبخ والسفر، فيما يوجد قسم صغير للكتب الكلاسيكيّة ذات الطبعات القديمة جدًا، وقسم مخصّص لكتب الأطفال.
اقرأ/ي أيضًا: القراءة.. أعظم النعيم
تعتمد مكتبة المتجر في مواردها من مختلف الكتب على ما يتمّ التبرّع به من قِبل القُرّاء، حيث وبشكلٍ يوميّ يأتي أناسٌ من مختلف الأعمار والأجناس حاملين ما تيسّر لهم من الكتب، وبلغةٍ هادئة يسألون: هل يمكنني أن أتبرّع بهذه الكتب؟ فيجيب القائم على المبيعات: بالتأكيد يمكنك، شكرًا لك على ذلك. أغلب المتبرعين يُساعدونك في حمل الكتب إن كانت كثيرة. أذكر أنْ مُحاميًّا مسنًّا أتى بكتبٍ قانونيّة كبيرةٍ وكثيرة، وأصرّ على مساعدتي بحملها إلى الطابق العلوِيّ رغم كِبر سنّه، وبدلًا من أنْ أشكره على كلّ ما فعل، سبقني قائلًا: شكرًا لك على مساعدتي، وتابع شكره للقائم على المبيعات بقبوله تبرعاته من الكتب.
يتم منح الكتب أسعارًا لا تتجاوز الجنيهين إسترليني 2£، وغالبًا ما يكون سعر الكتاب جنيه إسترليني واحد 1£ بغضّ النظر عن قيمة الكتاب الأدبيةّ أو العلميّة، وبالالتفات إلى قيمة الجنيه في الحياة اليوميّة نجد أنّ متوسّط ثمن كيلوغرام البصل في البقاليّات هو جنيه إسترليني واحد 1£، وغالبًا ما تقوم متاجر بيع الألبسة والأدوات المستعملة بتخفيضات وعروضات على مبيعاتها، فيغدو ثمن كلّ عشر روايات من الحجم الصغير بجنيه إسترليني واحد 1£. فقط اقرأ. ولن ننسى القسم المخصّص للأطفال حيث تكون أسعار هذا القسم منخفضة بشكل دائم، فتجدُ أنّ ثمن كتب الأطفال لا تتجاوز النصف جنيه، بغض النظر عن العمر الذي يخاطبه الكتاب، إذ توجد كتب على شكل ألعاب، تحمل مجسمات ورسوم عالية الجودة تحكي القصة بلغة الصورة مُرفقة بكلمات بالحجم الكبير، وهي غالبًا لسنّ الثالثة والرابعة، ولا يتجاوز ثمنها ثمن علبة بسكويت صغيرة، ومن باب آخر فإنّ الأهل والمدرسة يُساعدون الطفل منذ بدايته بالتعوّد على القراءة، وجعلها فعلًا يوميًّا يُشبِه الأكل والشرب، دونَ أنْ يُصيبه هذا الفعل بأيّ حالة من الملل أو النفور، فتصبح القراءة حاجة يطلبُها العقل الباطني منذ بداية تكوينه.
بالعودة إلى القُرّاء، فَإنّك تلتمس إقبالًا لا بأس به من مختلف الأعمار والأجناس، حتّى أنّ المشردين يأتون لشراء الكتب، ويبحثون بين الأسماء والمؤلفات عن أشياء معينة، ما يؤكّد لك على أنّ الثقافة إنْ تمّ حصرها في القراءة فهي موجودة بكثافة بين كلّ الناس، مصحوبة بتواضع القارئ الذي مهما علا سقف مخزونه الأدبيّ والعلمي لا يؤثرُ على شكل تعامله مع الناس.
هذه المشاهد هي من تجربتي البسيطة في المجتمع البريطاني، ومنها أيضًا سننتقل إلى أماكن مختلفة في مدينة كارديف، ونبدأ من مكتبة المدينة المركزيّة، حيث تقع في وسط المدينة وتحتوي على ما يُقارب المئة ألف كتاب ورقيّ، بالإضافة لعشرة آلاف قرص مضغوط CD وDVD، كما يوجد طابق مخصص لكتب اللغات الأجنبيّة، وللعربية نصيب بما يقارب الخمسمائة كتاب من مختلف الأقطار. تتمّ استعارة الكتب عن طريق آلية بسيطة، وهي إنشاء بطاقة خاصة بالمكتبة تحمل بياناتك الشخصيّة ضمن شيفرة إلكترونيّة، لا يتجاوز ذلك الربع ساعة، وتوجد آلات خاصة محمّلة بخيارات: استعارة، إعادة، وتجديد استعارة، حيث تأخذ ما ترغب من الكتب وتقوم بنفسك بوضعها على الآلة التي تقوم بدورها بالتعرّف على بطاقتك والكتب واحدًا.. واحدًا، ثمّ تطبع لك فاتورة مكتوب عليها بياناتك وبيانات الكتب، مع تاريخ استعارتك لها والتاريخ الذي يجب أن تُعاد به، يُسمح لك بإبقاء الكتاب لمدة ثلاثة أسابيع، مع إمكانية إعادة التجديد، وكلّ هذا دون أن تدفعَ فلسًا أو بِنسًا واحدًا، ولا تتجاوز العمليّة الدقيقة الواحدة، كما ويوجد مكتبات مخصصة تتبع لجامعة كارديف، تحمل ذات الآليّة في الإعارة، بالإضافة لوجود أماكن مخصصة للقراءة تصل إلى درجة عدم الإتيان ببنت شفة تحت اسم "Quiet Area"، ومن ضمن هذي المكتبات مكتبة تظلّ مفتوحة الأبواب 24 ساعة، حيث تجد الكثير من الطلّاب في الثالثة فجرًا يجلسون في المكتبة مع حواسيبهم وكتبهم، يقرؤون ويكتبون ضمن طقسٍ دراسيّ يمنح المكتبة ذات الطوابق الأربعة روحًا لا تتوقّف.
الكتاب سلعةٌ يوميّة تُصادفك أينما ذهبْت في بريطانيا، متاحة لكلّ الأعمار والطبقات الاجتماعيّة
أيضًا يوجد في كلّ مدرسة مكتبة ضمن مركز خدمات الطلّاب، وغالبًا ما تكون الكتب داعمة للمستويات والمراحل الدراسيّة الموجودة في هذه المدرسة، حيث تقوم المكتبة في كلّ فترة بتقديم خدمة "Help Yourself" ساعد نفسك، فيتمّ وضع مجموعة من الكتب التي مرّ عليها وقت طويل في المكتبة على طاولة منفصلة، يمكنك اختيار ما يعجبك واقتناؤه مجانًا.
كما أنّنا لا نغفل عن المتاجر الكبيرة وحتّى الغذائيّة منها التي تهتمّ بالتخفيضات، حيث تحتوي على الأقلّ على رفّ خاص بالكتب الجديدة، بأسعارٍ زهيدة تُنافس الكتب المستعملة، إذ تجد أن سعر الكتاب الأصليّ هو عشرون جنيهًا £20 أو أكثر، فيما يُباع بجنيهٍ واحد£1.
اقرأ/ي أيضًا: حيَّ على القراءة
إذًا الكتاب سلعةٌ يوميّة تُصادفك أينما ذهبْت في بريطانيا، متاحة لكلّ الأعمار والطبقات الاجتماعيّة، فتصبح القراءة شيئًا لا بُدّ منه، ويغدو فعل الأمرِ "اقرأ" فعلًا جماعيًّا روتينيًّا يُصاحبُ الناس أينما وُجِدوا.
اقرأ/ي أيضًا: