القصص والحكايات موجودة على الطرقات، وكل إنسان له قصة يمكن تدوينها، لكن ما يميز الكاتب أن بمستطاعه استحضار هذه القصص من الواقع وإضافة الخيال إليها والكتابة عنها بواسطة اللغة، وتلك مهمات حصرية ببعض الأشخاص لأنها تتطلب اندفاعًا نفسيًا قويًا ورغبات للتعبير وطموح للشهرة وحاجات نفسية عميقة تدفع بالكاتب إلى سلوك هذا المسلك، وهي انفعالات ليست متاحة لكل البشر، ومن هنا تتأتى خصوصية الكاتب وميزته عن باقي أقرانه.
أحدهم كتب "الشعراء أبناء الآلهة". الكتابة فعل ألوهي، أولًا لأن للكتابة تأثير مقدس، فالكتب المقدسة رصّعت أحرفها وكلماتها بالذهب، والله خاطب البشرية بواسطتها. وثانيًا لأن كل مقدس يحمل في طياته السحر والغرائبي والعجائبي فتصبح بذلك الكتابة فعلًا ساحرًا جذابًا يشد عامة الناس الذين يجدون فيه قدرة أعلى من قدراتهم، فالكاتب هو شخص لا يخاف، يواجه، يبدع، وينقل كل ما يدور في خياله إلى الواقع، وهذه صفات لا تتمكن الغالبية من الناس فعلها.
الحكايات في كل مكان، لكن ما يميز الكاتب أن بمستطاعه استحضار هذه القصص وإضافة الخيال إليها
اقرأ/ي أيضًا: إيلينا فيرانتي: أتجنّب الجمل غير المكتملة حتى لو فرض الحوار ذلك
ولكن لماذا يلجأ الأدباء إلى الكتابة بأسماء مستعارة؟ وقبل الإجابة عن لماذا يكتب البعض بأسماء مستعارة، يجب الخوض في الإجابة عن سؤال: لماذا نكتب؟ وماذا تعني الكتابة بالنسبة للكاتب/الإنسان؟ ومن ثم ننطلق للبحث في السؤال الإشكالي للمقال. وبعد طرح السؤال على نفسي وعلى روائيين، وبعد البحث، توصلت إلى بعض الإجابات التي أود مشاركة القراء بها.
مروحة من الاحتمالات
أكتب كنوع من العلاج النفسي للتخلص من العقد المتربصة بي، وأكتب لأن النرجسية تجتاحني والأنا متضخمة عندي، وأكتب سعيًا وراء الخلود فلا أريد أن تنتهي حياتي كأي إنسان آخر عادي، وأكتب ربما من أجل الانتقام، وأكتب للخروج من الإحباط، وأكتب لتصحيح ما يجري في العالم، وأكتب لإعادة الأوضاع إلى مساراتها الصحيحة، وأكتب لأني أشعر أن قضايا الكون تستقر فوق ظهري وتنهك فكري، وأكتب لأن سوسة من الخيالات تنخر عقلي.
وأكتب لأشعر بوجودي، لأحب وجودي، لأجد معنى لوجودي، وأكتب ليصل صوتي إلى الآخرين، وأكتب ليقول عني الناس أن هذا الشخص كاتب محترف، وأكتب ليشير إلي الآخرون بأنني كاتب، أكتب وأكتب لأنه لا يمكنني التوقف عن الكتابة، وأكتب لأن عدم الكتابة سيؤدي بي إلى الانفجار أو العنف والصراخ، وربما الانتحار، وأكتب لأفرغ كل الشحنات العصبية، وأكتب لتهدأ أعصابي وأستريح، وأكتب ليصبح مزاجي جميلًا فأبتسم، وأكتب لأتمرد، وأكتب من أجل الثورة، وأكتب لنفسي، وأكتب كي يقرأ ابني كتاباتي حين يكبر.
أما أحمد مجدي همام، الروائي والصحفي المصري، فيعتبر في حديثه لـ"ألتراصوت" أنه: "يصعب على أي كاتب تحديد السبب الذي يجعله يكتب، الأمر أشبه باللعنة، أو المرض، أو المتلازمة.. ماركيز قال إنه يكتب ليحبه أصحابه، وآخرون كتبوا ليحلوا مشاكل العالم، وفريق ثالث كتب كنوع من البوح.. هناك مئات بل آلاف الإجابات لهذا السؤال الذي في الحقيقة تصعب الإجابة عليه".
ويضيف بالقول "شخصيًا أكتب لأن الاستمرار في الكتابة أسهل ألف مرة من التوقف عنها، أكتب لأنني أحب ذلك، ولأبهر حبيبتي، ولأرضي غروري، ولأمتع القارئ بنص أراه من وجهة نظري جيدًا ويستحق القراءة.. وبوسعي أيضًا أن ألغي كل الأسباب السابقة وأن أقول إنني أكتب وكفى والأفضل محاكمة كتبي بدلًا من توجيه سؤال عن سبب إقبالي على الكتابة".
بينما كان الكاتب اللبناني قاسم مرواني خفيف الدم وصريحًا بقوله: "أكره هذا السؤال حول السبب الذي يدفعني للكتابة لأني لم ولن أقول الحقيقة حول الدافع للكتابة، وخاصة لن أقوله لكي يتم نشره".
أسباب موجبة؟
بعض الكتاب يلجأون إلى الكتابة بأسماء مستعارة لان المحتوى قد يسبب لهم الإحراج، على سبيل المثال، زوجة أقامت علاقة خارج الزواج ثم بعد صراع مرير مع الحب قرّرت الكتابة عنها تحت اسم مستعار تهربًا من اتهامها بالخيانة الزوجية. البعض الأخر يلجأ إلى هذه الحيلة من أجل دراسة طبيعة الكتاب فإذا نجح يتبناه وإن لم ينجح يسكت ولا يعيره أهمية وعادة ما يكون هؤلاء كتاب متمرسون وذوي شهرة ولا يريدون السقوط من عروشهم.
في حقبات زمنية سالفة، كانت النساء تنشر بأسماء رجال كي يؤخذ أدبهن على محمل الجد!
نجد أن جوان رولينغ كتبت روايات عن الجريمة باسم مستعار هو روبرت غابرايث، والسبب في ذلك أنها كانت تريد أن يحكم القراء على قيمة المنحى الجديد لرواياتها في عالم الجريمة دون الربط مع المنحى الذي اتخذته في رواياتها السابقة. ونجد أن ستيفن كينغ كتب بضعة كتب خلال مسرته باسم ريتشارد باخمان، والسبب في ذلك يعود إلى مقولة مفادها أن الكاتب الذي ينشر كثيرًا من الكتب ستكون نوعيتها متدنية لأنه يكتب بسرعة.
اقرأ/ي أيضًا: 6 طرق للتعامل مع حالة "قفلة الكاتب"
ومن الأسباب الأخرى قد يكون تشابه أو تطابق الأسماء مع أحد الشخصيات المنفرة أو المكروهة، أو لأن الكاتب يعتبر اسمه غير محبب، أو غير فني وغير ملائم لوجوده على غلاف الكتب، وربما لكونه اسمًا يثير الضحك. في حقبات زمنية كانت النساء تنشر بأسماء رجال كي يؤخذ أدبهن على محمل الجد في ظل نظرة تنميطية تعتبر الإبداع الروائي حكرًا على الرجال.
وطبعًا، تبقى الأسباب السياسية أو العقائدية ذات بعد أساسي في النشر باسم مستعار، فالكاتب الصيني ليو شيابو سجن واعتبر مخربًا من قبل السلطات الصينية وتم منع كتبه التي نشرها في أغلبها خارج الصين، وكان اسمه "لاو شياو"، وكذلك فعل مؤلف كتاب "لماذا لست مسلمًا؟" المجهول الهوية ونشر كتبه تحت اسم ابن وراق خوفًا من التعرض للأذية بسبب انتقاده للدين الإسلامي، كما حصل مع سلمان رشدي بعد نشر كتابه "آيات شيطانية" وصدور فتوى دينية بقتله.
أما بعض الكتاب في الهند نشروا رواياتهم بأسماء مستعارة لأنهم اعتبروا أن وضع أسمائهم الحقيقية على أغلفة الكتب يمثل نوعًا من الغرور، مما يتعارض مع معتقداتهم الدينية أو الروحية والفلسفية في الحياة. وآخرون يرون أن الكتابة دون ذكر حقيقة هوياتهم تمنحهم مجالًا واسعًا من الحرية للتعبير عن كل ما يريدونه دون أي ضوابط أو حدود وحواجز.
الكتابة من وراء القناع
ياسمينة خضراء هو الاسم المستعار للكاتب الجزائري محمد مولسهول الذي كان منخرطًا في السلك العسكري، وخلال فترة عمله في الجيش قام بإصدار روايات موقعة باسم زوجته. كانت الجزائر عرضة لحرب شرسة، وكان خاضعًا للجنة رقابة من طرف، ولكي يستمر في الكتابة كان عليه اختيار طريق السرية، فاستعمل اسم زوجته.
وفى عام 2000، وبعد 36 عامًا من الخدمة، قرر الكاتب اعتزال الحياة العسكرية والتفرغ للكتابة. وفي العام التالي نشر روايته "الكاتب" التي أفصح فيها عن هويته الحقيقية، وتلاها "دجال الكلمات" كتاب يبرر فيه مسيرته المهنية.
وأما الروائية الإيطالية إيلينا فيرانتي فقد اقترنت مسيرتها بالإثارة والتشويق إذ أنها اختارت اسمًا مستعارًا لتكتب به أعمالها. فاسمها الحقيقي لم يكشف بعد، وقامت عدة استقصاءات صحفية بحثًا عن هويتها الحقيقية (وربما تكون رجلًا)، لكن لم يستطع أحد التوصل إلى أي وثيقة أو صورة تعريفية لها.
بعض الكتاب في الهند نشروا رواياتهم بأسماء مستعارة لأنهم اعتبروا أن وضع أسمائهم الحقيقية على أغلفة الكتب يمثل نوعًا من الغرور
وقد لقبت بالكاتبة "اللغز" واقتصر ظهورها الإعلامي على حوارات صحفية مكتوبة تقوم بإرسال أجوبتها إلى الناشر عبر البريد الإلكتروني، ورسالة صوتية مقتضبة تم نشرها بعد احتدام الجدل حولها، لمحت من خلالها إلى أنها تنحدر من مدينة نابولي، وأصرت على البقاء في الظل معتبرة أن الكلمات تخوض رحلتها بمفردها من دون أن يرافقها كاتبها، فلا ضرورة للكشف عن هويتها وتفاصيل حياتها اليومية وظروفها المعيشية.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا عليك أن تكتب روايتك الأولى؟
بدأ القراء في السؤال والبحث عن إيلينا فيرانتي ومن تكون، لكنهم اصطدموا بعد واقعة الاسم المستعار، وفوجئوا بعدم وجود أي معلومات عنها، كما امتنع الناشر الإيطالي عن الإدلاء بأي إشارات تخص هوية الكاتبة، فزاد ذلك من الغموض الذي يكتنف حقيقتها، وضاعف من الهالة المحيطة بها، وبالتالي شهرتها حول العالم. وأدرجتها التايمز الأمريكية ضمن قائمة الأكثر تأثيرًا لسنة 2016.
الإخلاص للأدب
لم يخض الكاتب أحمد مجدي همام تجربة الكتابة باسم مستعار، ولم يواجه ظروفًا تدفعه لإخفاء هويته، ويعتبر أن هذا الترف ليس متوفرًا للجميع. ويشير همام إلى أن "هناك سيدات يكتبن على عكس رغبة مجتمعاتهن وعائلاتهن وأزواجهن فيضطررن إلى إخفاء هوياتهن، وهناك من يكتب في بلدان متزمتة لا ترحب بالأدب أصلًا، وآخرون يكتبون بأسماء مستعارة لتفادي بعض المآزق القانونية التي قد يقعوا فيها حال اكتشاف هوياتهم، لكن كيف يصح للكاتب أن يكتب وينشر باسم آخر دون أن يجني الحصاد المعنوي لنجاح كتاباته؟ لا أعرف".
ويخمن أن هؤلاء مخلصون للأدب أكثر من إخلاصهم لمكتسباته، فالواحد منهم لا يكترث كثيرًا لشهرة أو مكسب مادي أو جائزة قدر اهتمامه بإنتاج نص جيد وخالد، يمثل إضافة للمكتبة العالمية. ويرى همام أنه "في الحقيقة أنا أحسد هؤلاء على تجردهم من السعي المحموم لتوظيف الأدب كمصدر رزق، لا، فهؤلاء لا يريدون من الأدب إلا المتعة والجمال. لديهم طلب صغير على الهامش يتمثل في ألا تكون الكتابة مصدرًا لإيذائهم، ولذلك يحتفظون بهوياتهم الحقيقية لأنفسهم ويصدرون أعمالهم بأسماء مستعارة".
برأيه، "نعم، الكتابة قد تؤذي الكاتب في بعض الظروف وفي بعض البلدان، وتكفي الإشارة لسيدات حُرمن من الحق في التعلم بمباركة مجتمعية كاملة.. فكيف لمثل هذه السيدة أن تتجرأ وتكتب ثم – ياللهول – تضع اسمها على غلاف كتابها؟! أحيي كتّاب الأسماء المستعارة، الشجعان، الذين تشبثوا بالكتابة والأدب، وتنازلوا عن أسمائهم".
الكتابة الأدبية تتطلب من الأديب أن يخلع قفازاته وأن يتعرى أمام جمهوره. الكاتب اللبناني قاسم مرواني علّق على الموضوع بقوله: "ربما هناك دواع مهنية للكتابة بأسماء مستعارة، أو ربما يكون الخوف من الأذية، وأحيانًا هناك أعمال تمس الشخص بتفاصيلها الحميمية فيلجأ الكاتب إلى نشرها بإسم مستعار، فليس بمقدور كل الناس أن تفضح نفسها". وأضاف "الإيغو يمنع الكاتب من أن لا يضع خطة ينكشف فيها بعد أن يموت".
اقرأ/ي أيضًا: