على حين غرّة، أضطر إلى حمل القلم لتدوين رقم هاتف على الورق حتى أتمكن من ملاحقة سرعة الأرقام التي يطلقها صوت المتصل. ستة أرقام كانت كفيلة لأن تسبب ألمًا في مفصل يدي. كتبت الأرقام بسرعة، بخط متعرّج وكل رقم منثور على بقعة ما في الصفحة. اكتشفت حينها أن خطّي لم يعد كما كان. وأن تلك الفتاة التي كانت تختارها المعلمة لتكتب على اللوح الأخضر بخطّها الجميل أمام رفاقها في الصف، قد بدأت بالتلاشي. وجد القلم نفسه غريبًا بين أصابعي بعد أن حاول جاهدًا الوقوف بين إصبعين اثنين. لم تعد أصابعي تألف القلم. ولم تعد يدي تُسعفني على كتابة أسطر قليلة. صرتُ أفضل اللابتوب والكيبورد. وربما هذا سبب إضاعتي للأقلام كلما حصلت عليها. حتى هوايتي في الاحتفاظ بأقلام الآخرين، وليست سرقة كما سيعتقدها البعض، بدأت تختفي شيئًا فشيئًا.
يصر شاعر على استعمال الحبر لنظم أبياته بينما لا يقو آخر على الخروج وإلقاء قصائده دون حمل الأيباد
بينما العالم يتقدّم ذكاءً. نحن على المقلب الآخر نزداد غباءً. مقولة يردّدها كثيرون في عصرٍ اتكّل الناس على الأجهزة والآلات لتفكّر عنهم. ولتقرّر مصيرهم في أكثر الأحيان. لا حاجة لاستعمال ذهنك وأصابعك لاحتساب الأرقام. وإلا ما وظيفة الآلة الحاسبة؟ وما الداعي لتنظيم ذاكرتك وجدول أعمالك إن كانت وظيفة الهاتف تذكيرك بها. ولماذا قد تُشغل رأسك بالتفكير للإجابة عن معضلة ذهنية وغوغل موجود.
قد ينظر البعض لهذا الوضع بإيجابية تامة، لاسيما الجيل الجديد. في الوقت الذي يصر فيه أصحاب الجيل القديم- حسنًا ليس قديمًا جدًا- الجيل الذي يسبقنا على التشبث بأنفسهم في ظل هجمة التكنولوجيا.
يصر شاعر على استعمال الحبر لنظم أبياته. بينما لا يقو آخر على الخروج وإلقاء قصائده دون حمل "الأيباد". ويستمر الطبيب بكتابة وصفاته الطبية بالقلم، بالرغم من أنه نفسه لا يستطيع تهجئة الأحرف التي دونها لسرعة كتابتها. وقد تتساءل عن كتابة أكثر النصوص الجميلة والشاعرية باستخدام كيبورد الكمبيوتر، وتمكّن هذ النص المكتوب بخط وهمي من إيصالنا إلى النشوة بسبب جماليته تمامًا كالنص المكتوب بالحبر. وما يثير الغربة أكثر، استحالة استخدام كاتب للقلم بهدف تدوين كتاباته الجميلة. بل يصر على استخدام الآلة. وإن فعل مرّة ستكتشف أن خطّه بشعًا بمقدار جمالية الكلمات التي يكتبها. وقد ترى أشخاصًا يعادون الكتب الإلكترونية لصالح الكتب الورقية لأن الورق والحبر ينبعث منهما جاذبية برّاقة. وقد يقول قائل إن القلم والآلة الكاتبة يتشابهان في المادة، فهما يصنّفان في خانة الأشياء. بينما لا يتمكن آخر من استيعاب هذا التعريف. ذلك وأن الحبر هو الذي يجعل النص متألقًا.
أما المستغرب أكثر، فهو قابلية هذا العالم على إنتاج كميات كبيرة من الأقلام وإفراغها في الأسواق، وبأشكال وألوان مغرية. في الوقت الذي تتوعّدنا الأجهزة التكنولوجية باكتساح كل شيء، قريبًا جدًا.
اقرأ/ي أيضًا:
حرب التكنولوجيا الباردة
الخيم الذكية.. ابتكار عربي لتخفيف معاناة اللاجئين