"إن هدفي في هذه المحاضرات هو تحويل أصدقاء الله إلى أصدقاء للإنسان، والمؤمنين إلى مفكّرين، والمتعبّدين إلى عاملين، والحالمين بالعالم الآخر إلى طلاب لهذا العالم، والمسيحيين، الذين باعترافهم، نصف حيوان ونصف ملاك إلى رجال، رجال كاملين". هكذا يقول الفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ (1804-1872) في كتابه "محاضرات حول جوهر الدين" (دار الليبرالية 2022، ترجمة وتعليق الراحل نبيل فياض).
يُعد فويرباخ من الفلاسفة الذين اتخذوا موقفًا نقديًا حادًا من الدين، ومن الذين تكلموا عن الله والظاهرة الدينية وتحليلها بشكل عقلاني وسيكولوجي وأنثروبولوجي، حيث تعمق بتفكيكها بكل تفرعاتها بالشكل الذي لم يسبقه إليه أحد. ولذلك اعتُبرَ واحدًا من رواد النقد الديني واللاهوتي، ما جعل معظم الفلاسفة والعلماء يتأثرون به وبأطروحاته مثل كارل ماركس وسيغموند فرويد.
يعتقد فويرباخ أنّ الأفكار والمؤسسات الدينية تمنع البشر من تحمل مسؤولياتهم في مواجهة التحديات التي يتعرضون لها وتجعلهم ضحية للجهل والاستغلال
في كتابه الذي بين أيدينا، والذي يقع في 447 صفحة، يقوم فويرباخ بقلب فكرة أستاذه فريدريك هيغل التي تذهب إلى أن الوعي الذي عند الإنسان عن الله، هو الوعي الذي له علاقة بالروح المطلق الذي يكشف نفسه في العقل، وجسّده هيغل في المسيحيّة الحقّة التي جعلها في قمّة هرم الوعي الإنسانيّ.
يذهب فويرباخ إلى أنّ الوعي الذي لدى الانسان عن الله هو وعي الإنسان لذاته، يقول: "بدلًا من أن يخلق الإله الإنسان على صورته، كما ذُكر في الكتاب المقدس، فإن الإنسان هو الذي خلق الإله على صورته". فهو يعتقد أنّ معرفة الله هي معرفة الإنسان بذاته، وأنّ صفاته هي صفات الإنسان في حدودها المطلقة.
التسليط الديني والاغتراب الإنساني
يعتقد فويرباخ أنّ الأفكار والمؤسسات الدينية تساهم في منع البشر من تحمل مسؤوليتهم في التحديات التي يواجهونها، ما يجعلهم ضحية للجهل والاستغلال. ولعل هذه الفكرة تشكّل أساس نقده للفكر الديني بمختلف جوانبه انطلاقًا من المسيحية التي وجد فيها شيفرة تشرح له باقي الأديان، إذ يقول في كتابه: "كان شغلي دائمًا قبل أي شيء آخر أن أُنير المناطق المظلمة للدين بمصباح العقل حتى يمكن للإنسان في النهاية ألا يكون ضحية للقوى المعادية التي ستستفيد من غموض الدين لكي تقهر الجنس البشري".
نستطيع القول إذن، وبناءً على ما سبق، إنّ اهتمام فويرباخ هو رد فعل على واقع انهزامي سلب الإنسان كيانه الجوهري، وصار مستغلًا ومستلبًا من قبل حكومات ومؤسسات كهنوتيه كانت سببًا في شقائه في الأرض ليعيش وهم التعويض في العالم الآخر. لذلك كان من جملة أهداف فيورباخ جعل الناس: "أنثروبولوجيين بدلًا من أن يكونوا لاهوتيين.. طالبين للعالم الواقعي بدلًا من طلب العالم الآخر، مواطنين لا كهنة مراوغين".
ويحاول فيورباخ أيضًا تخليص الإنسان من اغترابه الذاتي الذي يتمثل في الشعور بالنقص من جهة، وطموحة إلى الكمال من جهة أخرى. وهذا ما يجعل الذات تنقسم على نفسها، ولذلك يعيش الانسان في ثنائيات متضادّة، كالفرح والذعر، القوّة والضعف، الشجاعة والخوف، وأخيرًا الحياة والموت، أي في حرب مفتوحة نصرها مؤجل.
وبناءً على ما سبق، يتجاوز الإنسان، وبحسب فيورباخ، هذا النقص والعجز من مخاوف وآلام من خلال تعليقها في شماعة إيمانه الديني، إذ صار الدين ملاذًا لعزاء الإنسان وما يعانيه من نقص وعجز، ما يجعله مغتربًا متكلًا على الدوام كابحًا لرقيِّه وتقدُّمه.
المخيلة والخلود
يتحدّث فيورباخ في كتابه عن سعي الإنسان إلى السعادة، فهو يرى أنها واحدة من الأسباب التي جعلته يتخيل الإله على صورته ومعبّرًا عن النقص الحاصل عنده، يقول:" يعتقد الإنسان بالآلهة ليس فقط لأن لديه مخيلة وشعور، بل أيضًا لأن لديه السعي لأن يكون سعيدًا، إنه يعتقد بوجود كينونات سعيدة، ليس فقط لأن لديه مفهومًا للسعادة، بل لأنه يرغب هو ذاته أن يكون كاملًا، إنه يعتقد بكينونة خالدة لأنه هو ذاته لا يرغب بالموت". وهكذا صار الدين مستودعًا لسعادة الإنسان من خلال جعلها هدفًا له، وهذا ما جعل الإنسان يُوقِّر ويعبد الآلهة فقط حتى يتسنى له تحقيق رغباته وجعله سعيدًا.
ومن خلال ما سبق، يمكن القول إنّ فيورباخ ساهم في إذكاء روح التطلع البشري وكبح جماح المؤسسات الدينية، التي تسعى إلى تدجين الناس نحو الدير والكنيسة والمسجد على اعتباره مونولوج مخلص، كما جعل الفهم الديني يخضع لمنطق التبدل والصيرورة وأشار إلى أنه يجب على الإنسان تأسيس فهمٍ ديني جديد غير قائم على الأنانية وإسقاط الضعف والعجز البشري على إله متخيل، إذ إن فكرة الله بحسب فيورباخ تتطور بتطوّر الوعي الإنساني خلال مسيرة التاريخ.
يحاول فيورباخ تخليص الإنسان من اغترابه الذاتي الذي يتمثل في الشعور بالنقص من جهة، وطموحة إلى الكمال من جهة أخرى
أما فيما يخص موضوع الخلود فإن فيورباخ يرى أنّه ليس ثمة خلود في الطبيعة غير التكاثر، بمعنى أن الإنسان يفنى والبشرية تبقى، فالتكاثر يستمر به مخلوق في العيش في آخرين من نوعه، حيث يتم استبدال الأفراد الموتى بأفراد جدد.
وفي مقاربته لمسألة الموت ومن ثم الخلود، يقول فيورباخ :"لكن الأكثر حساسية، الأكثر إيلامًا بين مشاعر التناهي عند الإنسان هو الشعور أو الوعي بأنه سينتهي ذات يوم، لو لم يكن الإنسان ليموت وعاش إلى الأبد فسوف لن يكون هنالك دين". فقبر الإنسان هو مسقط رأس الآلهة الوحيد بحسب تعبيره.
مقارنة بين الشرق والغرب
يُحاول فيورباخ في كتابه أيضًا الإجابة على سؤال "لماذا تقدّم الغرب وتخلف الشرق؟"، لكنه، ومن خلال إجابته التي تدعم فرضياته، يحابي الإنسان الغربي على حساب الشرقي. فالإنسان الشرقي عنده اتكالي معجون بدماء الأسطورة لا تعترضه أية عوائق أمام نتائج اعتقاده بالله، متخليًا عن حريته وعقله بعد أن خضعا للمرسوم الإلهي، والنتيجة أن اعتماده على القدرة الكلية لله تمنعه من البحث عن وسائل لعلاج شرور العالم ولا يحظى بحياة متقدمة. في حين يرى أن الإنسان الغربي يتجه نحو الفعل العقلاني المستقل، لأنه لم يعتمد على إيمانه الديني في تحقيق رفاهه، وهذا السبب الذي دفعهم للتقدم والتطور وتغيير وجه العالم.
أخيرًا
على الرغم مما أثارته كتابات فيورباخ في وقتها، وما تنطوي عليه من أفكار جرى تحريمها وتجريمها من قِبل رجال دين ومؤسسات دينية، فإنه يبدو للقارئ أنه ليست لديه مشكلة مع الدين بقدر ما هي مع الواقع السيء الذي كان يعيشه الناس آنذاك جراء توظيف الدين في إخضاع الإنسان واستلابه وتحويل بصره من الأرض إلى السماء، خصوصًا إذا عرفنا أنه ثمة علاقة وطيدة وإرث مشترك بين الديني والسياسي، ويبدو هذا واضحًا في قوله: "أنا لا أنكر الدين، أنا أنكر الأسس الذاتية، البشرية للدين، أنا لا أنكر حاجة الانسان إلى تأمل الطبيعة بمصطلحات شعرية، فلسفية، ودينية، أنا فقط أنكر موضوع الدين أو بالأحرى الدين كما كان حتى الآن".
فالمهمة الأولى لفيورباخ هو تحرير الإنسان وضرورة تصالحه مع ذاته وتحمل المسؤولية والقضاء على مخاوفه، من خلال التعليم ولجم النص الديني بوصفه سلطة تقوم بمحاكمة العقل وتحدد طرق التفكير وتكبل إرادة الإنسان وتجعله يعيش حياته في أقفاص كبيرة من الوهم.