يجري براد إيفانس هذا الحوار مع لورين برلنت، وهي أستاذة جامعية في جامعة شيكاغو وباحثة معروفة في الجنسانية والمشاعر اليومية، لصالح موقع Los Angeles Review Of Books حول طبيعة العنف في الحياة المعاصرة، وعن كونه شأنًا متصلًا بطبيعة المجتمعات الحديثة وليس مجرد استثناء كما تصوره بعض المقولات النظرية. أدناة ترجمة "ألترا صوت" للحوار.
هذا هو الحوار الحادي والعشرين من سلسلة حوارات مع الفنانين والكُتاب والمفكرين النقديين حول سؤال العنف. أجري هذا الحوار مع لورين برلنت، وهي أستاذة في جامعة شيكاغو. أحدث مؤلفاتها، كتاب "الجنس، أو الذي لا يُحتمل Sex, Or the Unbearable"، (الصادر عام 2013 بالتعاون مع الناقد الأدبي لي إدلمان)، وكتاب "الحب/الرغبة (2012) Desire/Love"، وكتاب "التفاؤل القاسي (2011) Cruel Optimism". وتعكف حاليًا على دراسة التأثيرات الوجدانية مثل الشعور بالانزعاج والافتقار إلى روح الدعابة، وستنشر في عام 2019، كتابًا جديدًا بعنوان "المئات The Hundreds" (مطبعة جامعة ديوك)، بالاشتراك مع عالمة الأنثروبولوجيا، كاثلين ستيوارت.
تعكف براد إيفانس حاليًا على دراسة التأثيرات الوجدانية مثل الشعور بالانزعاج والافتقار إلى روح الدعابة
أود أن أبدأ هذا النقاش بسؤال عام إلى حد ما حول مفهوم "العنف". ما الذي يعنيه لك هذا المصطلح؟ وكيف يمكن أن نفكر في علاقته بالمناخ المعاصر حيث نشهد على نحو يومي تقريبًا تصريحات تتبنى انحيازات مسبقة وأخرى تتحرر منها داخل ما يسمى بـ "الاتجاه السائد"؟
السياسة هي حرب استنزاف في حقيقتها. تشهد اللحظة الراهنة تصاعدًا في التوترات القائمة في العديد من المواقع ذات الامتيازات البنيوية وكذلك في تلك الهشة والمعرضة للخطر. أفلتت هذه التوترات من عقالها رافضة التقيد بأقنعة التحضر القديمة الزائفة أو قواعد النموذج الليبرالي الذي لطالما دعى لجعل التعاطف الغريزي مرجعًا للاحتكام في قضايا المجال السياسي والاجتماعي. لكن التصاعد الذي نشهده اليوم لحدة الفعل الذي يُطلق عليه "العنف" لا يُشير إلى نوع جديد من العنف. يرى كالفين وارن وفريد موتن بأن العوالم التي يحظى فيها البيض بالامتيازات ظلت متماسكة لفترة طويلة بفعل العنف المتواصل الناجم عن محاولة تحجيم الوجود الأسوَد حتى انعدم تقريبًا. في حين رأت ويندي براون بأن التمتع بالامتيازات الناتجة عن التفاوت الطبقي وعدم المساواة بين الجنسين وشعور الازدراء السائد بين أولئك الذين يتمتعون بهذه الامتيازات تجاه الآخرين ليس ممكنًا إلا عبر سلاح "التسامح" تجاه الاختلاف، هذا التسامح الذي يدعم في الواقع من الهياكل التراتيبية القائمة على القمع والإخضاع. في حين يبين مايكل داوسون وغيره من منظري الرأسمالية العرقية كيف تشبعت الحداثة على مدى مسارها الطويل بمثل هذه النماذج التاريخية.
بيد أن حدة العنف البنيوي والمباشر على حد سواء قد شهدت تصاعدًا خلال المرحلة الحالية التي تشهد صعودًا لليمين الرجعي، والقومي المعادي للأجانب على الصعيد العالمي. كما يخبرنا تضاعف أعداد فئات النشطاء وصعوبة التمييز بين هذه الفئات بالكثير عن التداعي الذي نشهده اليوم لاتفاقات التعايش المشترك الهشة، التي ظلت مهيمنة على المجتمع. وكما كتب عالم الاجتماع والمنظر الأدبي الفرنسي ليوتار والفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير، فإن السياسة تنشأ من الخلاف حول من يكون صاحب السردية المهيمنة، التي تسمح له بتحديد القواعد والموارد التي تمكنه من إملاء روايته للأحداث ومظلوميته على الآخرين.
اقرأ/ي أيضًا: حنة آرندت.. فيلسوفة تفكيك الشمولية
وهذا هو السبب الكامن وراء تغير الحالة المزاجية للناس وسلوكياتهم التي تبدو خارجة عن المألوف بدرجة كبيرة، إذ يرفض النشطاء من جميع الأيديولوجيات أن يتسموا بالعقلانية والمنطق، والمرونة والقابلية على التكيف التي ميزت الطرق القديمة. كثير من هذا الاضطراب ناجم عن نزعة رجعية: حيث يتفشى وسط أولئك الذين يتمتعون بالامتيازات البنيوية، وباء الشكوى الدائمة، يتجلى في إنكارهم للانتماء المشترك ورغبتهم في طرد الأشخاص الذين عاشوا معهم جنبًا إلى جنب، هذا إذا تحدثنا من المنظور السياسي. ولكن أيضًا، بفضل الإدراك المتجدد للجماهير التابعة حول مدى حضور الامتيازات الجنسية والعرقية والقومية والطبقية وكذلك العنف واعتياديته، قل عدد المبادئ المتفق عليها التي وضعت لتقييم طبيعة الاعتداء والإهانة والإصابة أكثر فأكثر. لقد وصفت أحد أعراض هذا التكشف الجديد للعنف بأنه "خبط عشواء". نرى هذه المقاربة في كل مكان نحاول فيه العثور على نماذج وقياسات تعين على تفسير الأحداث، التي تحيد عن الكيفية التي ندرك بها متوالية السبب والنتيجة في الحاضر التاريخي.
على سبيل المثال، كان لابد من اختراع مفهوم "العدائية متناهية الصغر" لإثارة الخلاف حول ما إذا كانت الأحداث التي تحدث بين الأشخاص، ناجمة عن موقف محدد ومتفرد، أم أنها تعبير عام عن عدم المساواة البنيوية. بالطبع الجواب دائمًا سيكون الاثنين معًا. ولكن حتى لو اتفقنا على أن هذه الاعتداءات الصغيرة هي في الواقع اعتداءات كبيرة تظهر على هيئة مجموعة من الأحداث المتسلسلة، وارتأينا أن صغرها ليس دليلًا على عدم أهميتها، قد لا نتفق على كيفية تضافر تلك الأحداث وأين يكمن موضع المسؤولية والمساءلة. ثم نناقش طبيعة الحدث، ونفرق بين ما يبدو متفردًا وشخصيًا، وما يعد تعبيرًا منتظرًا ومتوقعًا عن العنف الذي تولده البنى الاجتماعية العامة (التي تنطوي على العنصرية، وكراهية النساء، ورهاب المثلية الجنسية، والتحيز الطبقي، والنزعة الاستثنائية القومية، والتعصب الديني). في كثير من الأحيان، من أجل خدمة أولئك الذين يتمتعون بالامتيازات، تضخم الفضائح التي تظهر بالأحرف الكبيرة في العناوين الرئيسية من أجل صرف الانتباه بعيدًا عن العيوب الأساسية التي تعتري البنية الاجتماعية، نحو مشهد محدد يتم إلباسه برداء الأهمية المصطنعة. فالفضائح تهدأ وتتوارى في طي النسيان، بينما المشاكل البنيوية تظل باقية.
العوالم التي يحظى فيها البيض بالامتيازات ظلت متماسكة لفترة طويلة بفعل العنف المتواصل الناجم عن محاولة تحجيم الوجود الأسود حتى انعدم تقريبًا
لذا، يُمكن القول إنه في هذه اللحظة الحرجة التي تشهد ظهور حركات منسقة وتحالفات متغيرة، والتي تمثل حلمًا متجددًا بوجود مجتمع مدني واع، نجد أنفسنا في خضم مرحلة انتقالية تقوم على إعادة تقييم العلاقة التي تجمع المسبب والنتيجة وإدراكنا للطريقة التي قد نتمكن من خلالها تغيير نطاق وطبيعة العنف. نحن نكافح من أجل إيجاد طرق جديدة تمكننا من الاهتمام بهذا الحضور الاعتيادي للعنف، ومواجهته ورفض إعادة إنتاجه. كما أننا نكافح من أجل دفع ثمن مختلف للنضال ولفرض العواقب على أولئك الذين سعوا إلى أن يكونوا أقل عرضة لهذا العنف البنيوي على مدى التاريخ. يُعد هذا الوقت عصيبًا وضروريًا لا يجوز فيه للنشطاء أن يعانوا تشوش الرؤية تجاه معاناة لا تتسم على المستوى الداخلي، بالغموض على الإطلاق. لكن رفض الاعتراف بالأشكال الواضحة التي قد يتجلى بها العنف، والإصرار على تتبع تقنياته الداخلية المعقدة، وإيجاد أساليب جديدة لتسميتها والاستجابة لها (يتجلى ذلك واضحًا عند النظر إلى جميع الألقاب المنتشرة على موقع تويتر) هي أمور ضرورية لإعادة التفكير وإلحاق الضرر بعملية إعادة إنتاج العنف البنيوي سواء التقليدي أو الذي يمكن التنبؤ به.
نحن ندرك أن العنف هو أكثر بكثير من مجرد انتهاكات جسدية. وعند وضع ذلك في الاعتبار، تتضح الحاجة ليس فقط كما أكدتِ دائمًا في عملكِ، لأخذ سياسة الوقت الراهن على محمل الجد، والكيفية التي تشكل بها هذه السياسة أنماط الإدراك لدينا (وخاصة فيما يتعلق بالعرضة للخطر)، بل لمعالجة ما سُمع من ضحايا التاريخ وما لم يسمع منهم . كيف تفهمين فعل الإسكات؟
بالنسبة للكثيرين منا ممن عاشوا في القاع أو في الزوايا المظلمة للقيم الاجتماعية، فإن الرغبة في المطالبة بحقوقهم في العالم يصاحبها الخوف والعار، وتاريخ من الإذلال المباشر من قبل الآخرين وغير المباشر، بمعنى أن المرء قد يصل إلى مرحلة لا يتوقع فيها لمحاولته إثبات وجوده بالقوة أن تثمر عن شيء. أغلب ما نسميه صمتاً ليس صمتًا على الإطلاق، بل هو حديث سياسي وتواصل لا يلتفت إليه. ولذا، إذا كان بعض العنف المتمثل في الإسكات هو قمع أصيل وحقيقي لحرية التعبير، فإن معظمه يُعد في الحقيقة عجزًا عن التواصل: أن تشعر بإعراض الناس عن أخذك على محمل الجد وعدم تقبلهم لاختلافك، وذلك ردًا على قوة ما تقوله.
بالنسبة للكثيرين منا ممن عاشوا في القاع أو في الزوايا المظلمة للقيم الاجتماعية، فإن الرغبة في المطالبة بحقوقهم في العالم يصاحبها الخوف والعار
ولتوضيح الفكرة بشكل أكبر، رسمت وشمًا على ذراعي خلال الفصول الدراسية، يقول "ماذا يعني أن يكون لديك هذا الفكر". يشير ذلك إلى القصور في القدرة التفسيرية لمفهوم الصمت/الحديث المزدوج. ليس الأمر أننا لا نتحدث، أو لا يسمعنا أحد بشكل مستمر. بل يعني ذلك أن الناس لا يتحملون في الغالب إحداث تغييرات على أنفسهم بسبب ما يسمعونه. إن سؤال "ماذا يعني أن يكون لديك هذا الفكر؟" يستفسر عن نظرتنا للعالم عبر تلك العدسات، ذلك الإطار، ذلك الاقتراح. ما الذي يعنيه حقًا أن نتقبل ما نسمعه وأن نتجول حول العالم ونختبره، ونتدرب على فحواه في هذه الحالة؟ حتى عندما يُعبر حلفاؤنا السياسيون عن المقترحات والمطالب التي تصدمنا، فإن محاولة "إسكاتهم" يعني أننا نجنح من أول محاولة لمعارضة ما سمعناه: ولكي نسمح لتلك الحالة أن تتطور وتصبح حديثًا، فإن ذلك يتطلب التروي، وتقديم حالات وأمثلة، لكي نمنح هذا الحديث حياة محتملة. يبدو أن عدم إسكات الحديث غير المناسب أكثر صعوبة مما نتصور.
صار عملك معترفًا به على نطاق واسع لأنه يحث على التفكير في القضايا الحساسة المتعلقة بالضعف والعرضة للخطر. وعلى وجه الخصوص، التزمت بتجنب نزعات التعميم، والتي غالبًا ما تساوي بين الفروق القائمة على الجنس والعرق والطبقة الإجتماعية. ما الذي يطرحه مفهوم الضعف والعرضة للخطر اليوم من أجل تقديم نقد هادف للعنف؟
يقدم لنا هذا المفهوم بعض الأشياء. بصفتي باحثة في التأثير، فإنني أميل إلى النظر إلى الفروق بين البنية الأساسية والتعرض للتأثيرات الدنيوية. لذلك من الناحية البنيوية، يعتبر الجميع عرضة للتأثر. فنحن جميعًا نتقبل العالم ونستجيب له، ونشعر بالانزعاج حتى من قِبل الأشخاص والمؤسسات التي نرتبط بها والأشخاص الذين لا نعرفهم ولكننا بطريقة ما نأخذ الأمر على محمل شخصي كما لو كان وجودهم يمثل تحديًا لنا. تجد الأنظمة السلطوية حافزها في العديد من الأشياء، مثل توطيد الملكية والتحكم في نطاق الحياة بأكمله، ولكنهم يدركون أيضًا ضعفهم الكامن في عدم القدرة على السيطرة على قوة العمل وأساليب التفكير غير التقليدية؛ لذا يكون التنمر والعداء الرهيب بنفس مستوى الشعور بالضعف والذي يبدو مثل رِقّة غير محتملة. والسؤال لا يكمن في قدرة الضعف على تقديم مقياس للعدالة التصالحية، ولكن ما هي التكاليف المختلفة التي يتكبدها الناس للدفاع عن أنفسهم؟ هذه طريقة أخرى لقياس الامتياز: عن طريق وسائل الحماية والدفاعات المتاحة لهم ضد مكامن ضعفهم وموارد الخطر.
اقرأ/ي أيضًا: العنف والسياسة.. مقاربات نقدية
ثانيًا، لا تبدو بنية الضعف - الناتجة عن العيش ضمن علاقات سامة وغير متكافئة، والعمل ضمن حياة عملية لا تضمن العيش الكريم وبالكاد تحافظ على أجسادنا وعوالم الراحة التي نكافح للحصول عليها - دائمًا واضحة جلية، بل يمكن أن تتمثل أحيانًا في مشاعر اليأس، أو فقدان الشعور أو الواقعية أو البؤس أو الهوس أو الشعور بالغضب تجاه الآخرين، أو فقدان الثقة بشكل متطرف، أو الإرهاق والنضوب. لذا فإن هناك شيئًا واحدًا يُمكن للتفكير في "الضعف" أن يفعله، وهو توسيع فهمنا للفرق بين الضعف البنيوي والأجواء الاجتماعية الخانقة التي يولدها. والشيء الآخر الذي يمكن أن يفعله هو أن يجعلنا ندرك أن الطموح إلى عدم الشعور بالضعف هو رغبة مجافية للاجتماع البشري، لأن المهارات الاجتماعية ينتج عنها التكشف أمام الضغف والخطر بالضرورة، على مستويات عديدة، ومن نواح كثيرة.
يمكنني أن أسترسل، لكن التفكير في سؤالك يجعلني أدرك بعض الأشياء. أولها أن السبب الذي جعل الكثير منا يختار "الهشاشة" على العرضة للخطر، لوصف الشعور الصعب عند التكشف أمام المخاطر، هو أن الأخير يحمل طابعًأ شخصيًا وغريزيًا، في حين أن الأول يشير دائمًا إلى ما هو رسمي وبنيوي - غير شخصي - بشأن الضغوط التي نتعرض إليها في الحياة العادية في الوقت الراهن.
أما السبب الآخر هو أنني لا أشاركك الرأي في استخدام أدوات ضغط تسمح "بنقد هادف للعنف"، إذا كانت كلمة "هادف" تعني أن النقد الجيد سيغير الشروط التي على أساسها يعيد العنف إنتاج رتابته أو إمكانية التنبؤ به. لا أعتقد أن النقد البناء سيؤثر بالسلب على العمليات العالمية المتواصلة التي تحمي الأشخاص ذوي الامتيازات، على الرغم من أن أي تأثير سلبي لن يحدث دون نقد. ولذلك يتعين علينا كي نتمكن من تعطيل السبل التي تؤدي إلى إعادة إنتاج العنف، أن نتبرأ على سبيل المثال من (عدم المساواة، والظلم، وسياسات التمييز على أساس الجنس/النوع/الطبقة الاجتماعية)، علينا أن نعكر صفو العالم، وشروط العدل، والمسؤولية، والرضا والتي في الواقع من المحتمل على المدى القصير أن تزيد من حدة شعورنا بالهشاشة، بدلًا من حمايتنا من الاقتراب منه أكثر. وهذه طريقة أخرى لوصف الآلية التي تقف خلف هذه التصدعات والشقوق المتزايدة في حاضرنا الراهن.
إنني أتفق هنا تمامًا مع مخاوفك المتعلقة بالنقد "الهادف" للعنف، بصفتك ناقدة مؤيدة للمساواة، وأتفهم الحاجة إلى تغيير شروط التفاعل حسب ترتيب ما هو مقنع (قابل للفهم). أود أن أربط ذلك بعبارتك القوية "الرقة غير المحتملة". هل يمكنك توضيح المزيد عن هذا الأمر في سياق آليات التطبيع مع العنف وإساءة المعاملة؟
نحن نصف الأشياء بأنها لا تطاق عندما نكون على وشك بلوغ نقطة الانهيار أو بالفعل عند نقطة الانهيار. ندعو الأشياء بأنها لا تطاق عندما يتعين علينا تحملها. ولذلك الرقة غير المحتملة هي حالة تعترف فيها بأنه لا يُمكن للمرء حماية نفسه من العالم الذي يحاول البقاء فيه على قيد الحياة - ويشعر أنه غير مرغوب به، أو فقير الموارد، أو دفاعاته مستنفذة. إنها تُشير إلى قدرة تكيف عالية تبطل وتقاوم هذه الدفاعات. بالنسبة للنشطاء، فإن الطموح من أجل البقاء على قيد الحياة وزعزعة العالم ينتج عنه أحمال نفسية يصعب تحملها، وبينما يبحثون عن مساحة لالتقاط الأنفاس من أجل الحياة، يسعون إلى إحداث المزيد من التغيير.
لقد حذرتِ باستمرار من مخاطر التركيز على سياسات الاستثناء. لماذا تعتقدين أن الفلسفة السياسية لديها هذا الافتتان بهذا المفهوم؟ وما الذي يمكن أن نفعله بشكل مختلف عند التفكير في تلك الانتهاكات الشعائرية، التي صارت أمرًا طبيعيًا للغاية وجزء من النسيج الاجتماعي، ويبدو أنها مخفية عن أنظار الجميع؟
يرتبط الناس بقوة بصورة العالم التقليدي، التي تظهر حياةً تسير بشكل سلسل دون عوائق، ولذلك يتعين عليهم اعتبار الاضطرابات المتطرفة على أنها استثناء. بالإضافة إلى ذلك، يميل المُنظرون النقديون إلى الاستشهاد بـ "حالة الاستثناء" عند الفيلسوف وعالم الاجتماع فالتر بنيامين كما لو كان هذا مقصده. هناك الكثير من المشاكل في ذلك النموذج لوصف الاضطرابات، لكن المشكلة الأكبر بالنسبة لي هي أن وصف الصدمة بالاستثنائية يحمل في طياته الكثير من الفروض المسبقة عن حجم الحدث، كما تخبرنا لحظة الشدة الأولى بالأصول التي تقوم عليها أهمية الحدث. يشكل هذا الأمر أهمية خاصة بالنسبة للصدمات العادية الناتجة عن الظلم أو عدم المساواة، وهو نهج منبوذ تاريخيًا تمامًا.
تحدث الصدمات في الحياة، طوال الوقت، وكذلك الاضطرابات العادية. فهي تنتشر في جميع جوانب الحياة، والتقاليد، والقيود المفروضة على تخيل النتائج، وإسقاط الصفات على أنواع معينة من الناس، وربط بعض أنواع الأشخاص ببعض أنواع الإصابات، والاستجابات الغريزية الخاصة بكل شخص، وحياة الأحلام الخاصة بالشخص، والمفاصلة بين الوعي واللاوعي والجدل مع العالم، وما إلى ذلك. هذا هو السبب في أن أصحاب نظرية الصدمة يجب أن يتحدثوا عن الأحداث والبيئات المحيطة بها، وكذلك الأجواء التي تشكل قدرة الفرد على الارتباط بالعالم. الاستثناء ما هو سوى حجة ورغبة في أن الحياة لا يجب أن تكون مضطربة باستمرار بهذه الطريقة. لكن بالنسبة لي، لكي نتسم بالموضوعية في مشهد مليء بالعنف، علينا أن نتتبع الأسباب العديدة التي تنتج هذه الأحداث من خلال قوة عالمية صادمة تهز ثقتنا في النمط الذي نتبعه في الحياة. بيد أن حالة الاستثناء بوصفها أسلوبًا ورغبة تقطع علينا طريق الوصول إلى هذه الموضوعية.
في الختام، أود أن أسألك حول رأيك بشأن القضايا الشهيرة التي ظهرت في الآونة الأخيرة والردود السياسية التي تتعلق بالعنف الجنسي في مكان العمل. كيف يمكنك أن تفهمين الطبيعة الحميمية لهذا العنف، وما الذي يمكن أن نتعلمه من هذا، حيث أنه يتعلق بالأوساط الأكاديمية التي تظهر فيها بوضوح كبير علاقات السلطة وكذلك تزداد القدرة على إساءة المعاملة؟
باستثناء مقالتي التي حملت عنوان "المفترس والمهرج - The Predator and the Jokester"، فقد آثرت عدم الحديث عن هذا الموضوع علنًا، نظرًا إلى أن الكثير من الكتّاب الذين تناولوا حركة أنا أيضًا #MeToo في كتاباتهم بشكل علني وكذلك الممارسات الجنسية في الأوساط الأكاديمية، هم أصدقاء أو أصدقاء سابقون، ولا أستطيع نزع الطابع الشخصي عن هذه المناقشات بما فيه الكفاية. تُشير ردودي السابقة حول خبط العشواء في مواجهة أحداث محددة، إلى أعراض تشوهات نقدمها بالضرورة في هذه المرحلة المبكرة من الكشف العلني لذلك السر المفضوح للجميع حول إساءة المعاملة والاستغلال والشهوة في أماكن العمل.
يتطلب العيش باعتبارك الموضوع السلبي لأي شكل من أشكال عدم المساواة، الكثير من الطاقة الإبداعية التي ينبغي تناولها في عمليات التكيف الجزئية والدفاعات الارتجالية
تسير اتجاهات أماكن العمل في الاتجاهين العمودي - حيث أنها تتطلب وجود الاحترام - والأفقي، حيث أنها تتطلب التعاون في نفس الوقت. كما ترون في الأمثلة الرهيبة على التملق والإغراء والتهديد التي تقوم بالتبديل بين افتراض تحقيق المساواة في علاقة الزمالة التكافلية المتبادلة، وبين إنفاذ احترام التسلسل الهرمي عندما تشعر السلطة بأنها مهملة أو تنقصها السطوة. تنبأت فيرجينيا وولف بذلك منذ وقت طويل في رواية "غرفة تخص المرء وحده"، حيث تمثل المرأة باعتبارها الطرف المُجبر، ببساطة بموجب الأعراف والمجتمع، وليس عن طريق الوحوش الاستثنائية المخيفة، لتسويغ جميع حالات الاختلاف عن طريق تضخيم مصدر السلطة العائد على ذاته بمقدار ضعف حجمه. ما يجسد الأنثوية باعتبارها تدريب على الإطراء والغزل والانتقال إلى توجيه الانتقادات بشكل سري.
اقرأ/ي أيضًا: نقاشات "#Me_Too" الغائبة عربيًا
استجابتي الرئيسية لهذه اللحظة من التمرد، هي الشعور بأن ذكريات الماضي تغمرني بكل الحماقات التي تقبلتها على مضض خلال مسيرتي المهنية. كنت وقتها وما زلت في حاجة إلى تلقي تعليم حول كيفية التعامل مع ذلك المزيج المضطرب من الاعتماد المتبادل والعنف المتضمن من أجل الحفاظ على نظام المراقبة في التسلسل الهرمي، كما هو الحال في الأوساط الأكاديمية. ثم هناك كل الإهانات الواضحة والضمنية التي تعبر عن كراهية المرأة التي تعرضت لها، والتي لم تكن فقط ضد النساء بشكل عام ولكن ضد الطريقة التي أتعاطى بها مع الجنسانية. حيث إن كل محاولاتي اليائسة لكي أكون غاية في الوضوح ولكن غير مخيفة، أو كوني مخيفة للغاية والتعويض عن ذلك من خلال الحنان الشديد، مع الالتزام بكوني محل ثقة وصريحة ولكن لست حمقاء، بائت بالفشل دائمًا. ثم هناك صعوبة في تحمل الضغوط الناجمة عما يشبه تيار من التعليقات الشخصية المبالغ بها، فالنساء يخضعن للمراقبة بجنون، حتى من قبل بعضهن البعض. ثم هناك محاولة لاقتراح مفاهيم قد توضح تكاليف آلة الفرق التي يتواجد حطامها في كل مكان حولنا.
يتطلب العيش باعتبارك الموضوع السلبي لأي شكل من أشكال عدم المساواة، الكثير من الطاقة الإبداعية التي ينبغي تناولها في عمليات التكيف الجزئية والدفاعات الارتجالية: على الأقل، فإن الرأي العام الوثيق للشعوب التابعة ينقل هذه الاستراتيجيات، ويقدم العزاء الذي يؤكد على قيمة الحياة، ويقدم أيضًا اتجاهًا متزايدًا. وبالتالي، فإن هذه لحظة من الانكشاف الزائد وغير المريح أيضًا في حركة أنا أيضًا #MeToo، حيث يجري الفصل في المظالم بشكل أفضل ولكن في بعض الأماكن فقط دون سواها، وهذا يتم حتمًا بشكل محرج. لتغيير أسلوبنا يجب علينا أن نكون تافهين ومكشوفين أمام بعضنا البعض. ليس من الجيد التراجع إلى ماضٍ قد يبدو أنه كان حرًا، لكنه لم يكن مطلقًا حرًا، ولكن بغرض التخلي عن العادات التي من شأنها الحفاظ على النظام لمجرد المضي قدمًا لمدة يوم، أو أسبوع، أو شهر، أو مدى حياة.
اقرأ/ي أيضًا: