افتتح في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، الإثنين 8 كانون الثاني/يناير الجاري، المؤتمر الدولي "من ميدان التحرير إلى حديقة زوكوتي: الربيع العربي ونزع المركزية عن الدراسات الأمريكية"، الذي يشارك فيه حوالي 35 باحثًا على مدى ثلاثة أيام من أبرز باحثي حقل الدراسات الأمريكية، من كبرى الجامعات في أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا وأفريقيا، ومع حضور قوي من جمعية الدراسات الأمريكية، وهي واحدة من أهم وأقدم الجمعيات الأكاديمية بالولايات المتحدة، حيث يناقشون موضوع نزع المركزية عن الدراسات الأمريكية في ضوء الحراك الاجتماعي الذي بدأ من ميادين التحرير بالعالم العربي وتأثر به وحاكاه الكثيرون في الميادين الغربية.
الحضور المتنامي لأمريكا يعزز ضرورة النظر خارج حدودها ودراسة صورتها في أعين أولئك الذين يشهدون الأثر الكبير لقوتها
في كلمة الافتتاح، أكد الدكتور عيد محمد، منسق المؤتمر، أن الحضور المتنامي للولايات المتحدة على الصعيد الدولي يعزز ضرورة النظر خارج حدودها ودراسة صورتها في أعين أولئك الذين يشهدون الأثر الكبير لقوتها الثقافية والاقتصادية على حياتهم، حيث يمكن أن يسهم ذلك النظر من الخارج في مساعدة الباحثين على فهم الداخل الأمريكي، ويزيد من هذا الأثر كون الولايات المتحدة هي نقطة التقاء المهاجرين من جميع أنحاء العالم، حيث تتلاقى الأفكار والحركات والثقافات التي أسهمت في تكوين أمريكا والأمريكيين وما تزال تؤثر فيهم اليوم.
اقرأ/ي أيضًا: الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية
وفي السياق العالمي، أضاف الدكتور عيد محمد بأنه لابد أن تتحول الولايات المتحدة من "استثناء" إلى "متغير"، وهو ما يستتبع طريقة جديدة للنظر إلى الأحداث الأمريكية كمتغيرات في ظل التطورات الدولية. وأحد الأمثلة على ذلك هو التراوح في تحديد الهوية الأمريكية، بين ربطها بمجموعة من القيم غير العرقية وبين استنادها إلى التاريخ الأوروبي.
وأشار إلى أنه يمكن رؤية الخطاب حول الإدماج والإقصاء الإثني/العرقي كجزء من الخطاب المنتشر في مناطق مختلفة في أنحاء العالم، ومن ثم النظر في "التعددية الثقافية" المحلية في أمريكا وارتباطاتها بالتنوع العالمي. علاوة على ذلك، فإن الهجرة إلى أمريكا وغيرها من المجتمعات الغربية، والسياسات الجديدة لإدارة ترمب تستتبع تفاعلات معقدة بين الهويات القومية وعبر القومية؛ لذلك ترتكز عملية إعادة تشكيل حقل الدراسات الأمريكية من داخل العالم العربي على ديناميات التصورات المتبادلة مع التأكيد على إعادة تكوين صورة العرب والمسلمين في الفضاء العام الأمريكي استجابة للحاجات المعاصرة لتغيير أو تعزيز فهم القومية الأمريكية والتعريف الجمعي للذات.
عزمي بشارة: "الدراسات الأمريكية" لم تأخذ مكانتها المستحقة في أجندة البحث العربية
شمل برنامج الجلسة الافتتاحية للمؤتمر محاضرة للدكتور عزمي بشارة، رئيس مجلس الأمناء في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، والمدير العام لـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"؛ بعنوان "الحضور الطاغي لأمريكا وغياب الدراسات الأمريكية"، ألقاها نيابة عنه الدكتور ياسر سليمان معالي، رئيس المعهد بالوكالة.
أكد الدكتور عزمي بشارة أنه على الرغم من سيطرة الولايات المتحدة على المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي في منطقتنا العربية، فإن الدراسات الأمريكية لم تأخذ مكانتها المستحقة في أجندة البحث العربية. وقال إن ما يثيره هذا الحضور الأمريكي الطاغي من هواجس وردود أفعال متضاربة إلى درجة من الاستقطاب لا يبقى معها حيز لتحليل هادئ للسياسة الخارجية الأمريكية مبني على فهم نقدي للسياسات الداخلية للولايات المتحدة ذاتها.
واستعرض الدكتور عزمي بعض محطات نشأة "الدراسات الأمريكية" التي أخذت مكانتها في الدراسات الأكاديمية في سنوات الثلاثينات من القرن العشرين مع إدخال "الحضارة الأمريكية" ضمن مقررات جامعة هارفرد. لكنها نشأت قبل ذلك في كتابات باحثين ودارسين عبر كتب نشروها، وأقدم ما يمكن عده ضمن هذه الدراسات كتاب "الديمقراطية في أمريكا" لأليكسيس دو توكفيل، منتصف القرن التاسع عشر. وعرف هذا التخصص اتساعًا واهتمامًا أكبر بعد الحرب العالمية الثانية، وفي ظل الحرب الباردة.
يرى عزمي بشارة أن الولايات المتحدة تبقى - باستعارة المفاهيم الماركسية – الدولة صاحبة أهم "أدوات الإنتاج"
يرى الدكتور عزمي أن الولايات المتحدة تبقى - باستعارة المفاهيم الماركسية – الدولة صاحبة أهم "أدوات الإنتاج" وأكثرها تطورًا ليس لإنتاج السلع والتكنولوجيا فحسب، ولكن أيًضا إنتاج الصور والمعاني والرموز الثقافية، ولفهم هذا "الاستحواذ" الأمريكي على نحو نقدي تحليلي، وجب علينا البحث عن علاقات القوة والهيمنة السياسية والاقتصادية والأيديولوجية التي تقف وراءه. كما أن الانقسام "الثقافي-السياسي" الذي رافق فوز دونالد ترامب بالرئاسة، يشير إلى أهمية دراسة الولايات المتحدة من الداخل، في نطاق الثقافة السياسية الأميركية والصراعات الثقافية الداخلية التي هي أهم للدراسة مما يدعى "صدام الحضارات".
اقرأ/ي أيضًا: "المركز العربي" يبحث في تاريخية الجامعات العربية
وعن الاستقطاب الذي حدث في العالم العربي والعالم الثالث عمومًا تجاه الهيمنة الأمريكية وحضورها الطاغي، يشير الدكتور عزمي إلى أن القوميين في العالم العربي مثلًا وتركيا وإيران تعاملوا بنوع من الإيجابية في دراسة الولايات المتحدة، فرحبوا بنوع من الإعجاب بالمبادئ الأمريكية بوصفها "الدولة الحرة" أو دولة الحريات. في المقابل، ترى النظرة السلبية تجاه الولايات المتحدة، أن ثمة إمبريالية أمريكية نشأت بعد الحرب العالمية الثانية لتحل محل الاستعمار الفرنسي والإنجليزي في أفريقيا وآسيا. وأنتج هذا التوجه الذي مزج بين الشعور الوطني وأجواء الحرب الباردة أدبيات "مضادة لأمريكا"، وقد "تأسلم" الخطاب الكاره لأمريكا مع صعود الحركات الإسلامية في سبعينيات القرن العشرين، وبلغ ذروته مع شيطنة الثورة الإيرانية لأمريكا.
وشكّل تورط الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان بعد تفجريات أيلول /سبتمبر 2001، وكذا دورها في الثورات العربية لاحقًا؛ علامات جديدة في إذكاء خطاب الكراهية ضدها.
وأشار الدكتور عزمي إلى موجة داخلية جديدة من الدراسات الأمريكية المعارضة لتوجهات الولايات المتحدة، والتي يمثلها على الخصوص ناعوم تشومسكي وغور فيدال وريشارد فولك وستانلي هوفمان وغيرهم. وقد أخذت بعض الدراسات الأمريكية في المنطقة العربية هؤلاء كمرجعيات في نقد جديد للنموذج الأميركي، وقد استخدم الإسلاميون أفكار هؤلاء لشحن الرأي العام أكثر ضد أمريكا على اعتبار أن مصداقية هؤلاء الباحثين الأمريكيين أكبر.
وضمن اتجاهات "الدراسات الأمريكية" العربية، أشار الدكتور عزمي إلى الدراسات التي أبرزت حقيقة المصالح الاقتصادية والهيمنة التي تحكم السياسة الخارجية الأمريكية وخوضها حروبًا في حين تغطيها بادعاءات نشر الديمقراطية والحرية، منبهًا إلى الانزلاق الذي بلغه بعض أصحاب هذا التوجه بعد أن أصبحت أي رغبة داخلية لشعوب المنطقة العربية في إحداث التغيير والتوق إلى الديمقراطية والحرية، وتحركها باتجاه تحقيق ذلك، يوسم على الفور بأنه جزء من "المؤامرة الأمريكية".
وقال المتحدث إن الدارس العربي للولايات المتحدة الأمريكية كثيرًا ما يسقط عوامل مهمة جدًا في تحليله من قبيل "نظرة الأمريكي إلى نفسه"، كيف تعتقد بعض المجموعات في الولايات المتحدة أن بلادهم هي حاملة "رسالة للإنسانية".
وأوضح المتحدث أن "الدراسات الأمريكية" بأدبياتها وتراثها إنما تحيل إلى مجال بحثي متعدد التخصصات تشمل علم الاجتماع والدراسات الثقافية والأنثروبولوجيا وعلم السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد والدراسات الإعلامية وغيرها. لكنه ينبه إلى أن الغرب لم يشأ أن يصنف "الدراسات الأمريكية" ضمن توجه "دراسات المناطق" التي أنشأها الغرب نفسه لدراسة المجتمعات الأخرى وبهدف التحكم والهيمنة، لكنه يرفض تطبيق هذا المسعى على المجتمعات الغربية مدعيًا أن الدراسات التي تتناولها إنما هي دراسات مؤسسة لذلك "العلم الإنساني العالمي"، متجاهلًا أن كل هذه الدراسات التي أسست لعلم الاجتماع وعلم السياسة والأنثروبولوجيا والاقتصاد بوصفها علومًا وليدة سياقاتها المجتمعية وليس هناك من دليل على إمكانية أن تنطبق بنظرياتها ومناهجها على مجتمعات أخرى غير التي ولدت فيها. وهكذا تصف "الدراسات الأمريكية" مسعاها بأنها تبحث داخليًا (في الولايات المتحدة) عن القواسم المشتركة المكونة للأمة الأمريكية ولنمط العيش الأمريكي، فيما توسعت إلى خارج الولايات المتحدة من أجل تقديم هذا النموذج الأمريكي للحياة في مقابل النموذج الذي كانت تقدمه الكتلة الشيوعية خلال فترة الحرب الباردة.
عزمي بشارة: إن الدارس العربي للولايات المتحدة الأمريكية كثيرًا ما يسقط عوامل مهمة جدًا في تحليله من قبيل "نظرة الأمريكي إلى نفسه"
ويذهب الدكتور عزمي إلى أن الباحث غير الأمريكي سيفضل دراسة الولايات المتحدة بالطريقة ذاتها التي تدرس بها أمريكا والغرب المجتمعات الأخرى، أي عبر "دراسات المناطق" التي أسستها الجامعات الأمريكية، ولكن هذه الرغبة لدى الباحثين غير الأمريكيين ستصطدم أساسًا بعدم رغبة أنظمة الدول التي ينتمون إليها ورفضها تمويل دراسة الولايات المتحدة ضمن نطاق "دراسات المناطق" لأنه ليس لديها أي طموح في تحقيق الأهداف التي نشأت من أجلها هذا النوع من الدراسات وهي التحكم والهيمنة، فلا أحد من الأنظمة العربية مثلًا سيفكر في إمكانية الهيمنة على الولايات المتحدة. فهذه الأنظمة تسعى إلى كسب رضى واشنطن عبر إثبات أنها حليف جيد يجب الحفاظ عليه وحمايته من المخاطر الداخلية والخارجية.
اقرأ/ي أيضًا: المركز العربي يقارب الذكرى المئوية للحرب العالمية
هذا وسبق كلمة الدكتور عزمي كلمات افتتاحية لكل من: الدكتور ياسر سليمان معالي، رئيس المعهد بالوكالة، والدكتورة كانديس تشو، رئيسة جمعية الدراسات الأمريكية، والدكتور عبد الوهاب الأفندي، عميد كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بمعهد الدوحة، والدكتور روبن بريجتي، عميد كلية إليوت للدراسات الدولية بجامعة جورج واشنطن.
واختتم اليوم الأول بجلسة نقاشية بعنوان: أطر الدراسات الأمريكية العابرة للحدود الوطنية، رأسها الدكتور فرات أوروش من جامعة جورجتاون قطر، وتحدث فيها كل من: أليكس لوبِن، جامعة نيو مكسيكو، الولايات المتحدة، في ورقة بعنوان "ملاحظات عبر وطنية عن موسيقى الجاز الأفرو-عربية"، و مارك برادلي من جامعة شيكاجو قدّم ورقة حول "إضفاء الطابع المحلي على أمريكا وصناعة الخيال الحقوقي الإنساني العالمي في القرن الحادي والعشرين"، أما جوستافو فيجا كانوفاس من كلية المكسيك، فكانت مداخلته حول "مصير النزعة الإقليمية في أمريكا الشمالية في عصر تَرمب: عتيقة أم مستعصية؟"، واختتم اليوم الأول بورقة لروبرت وُوريّر من جامعة كانساس حول "الدراسات الأمريكية خارج أمريكا: تحديات واستفزازات الأصلانية".
هذا وستتواصل أعمال المؤتمر غدا الثلاثاء بجلسة بعنوان: المخيالات السياسية: قضايا الاستشراق، وأخرى بعنوان قوة الولايات المتحدة: من أين وإلى أين؟".
يشار إلى أن عقد مؤتمر عن الولايات المتحدة في السياق العالمي سيساعد الباحثين والمهتمين على تقديم تفسيرات مختلفة للهيمنة الأمريكية على الصعيد العالمي، في مقارنة بهيمنة الإمبريالية العالمية ومعانيها التقليدية التي تجعل الولايات المتحدة شبيهة بروما قديمًا أو بالمملكة المتحدة. وحسب الدكتور عيد محمد، منسق المؤتمر، فإن التفسيرات المختلفة، والمدعومة بكثير من الأدبيات ذات الصلة ستسمح برؤية الولايات المتحدة كإمبراطورية أو كمصدر للهيمنة. لذلك ترتكز عملية إعادة تشكيل حقل الدراسات الأمريكية من داخل الشرق الأوسط على ديناميات التصورات المتبادلة مع التأكيد على إعادة تكوين صورة العرب المسلمين في الفضاء العام الأمريكي استجابة للحاجات المعاصرة لتغيير أو تعزيز فهم القومية الأمريكية والتعريف الجمعي للذات.
وتجدر الإشارة إلى أن المؤتمر وما سينتج يرتبط بمنحتين بحثيتين ممولتين من برنامج الأولويات الوطنية للبحث العلمي من صندوق قطر الوطني للأبحاث، التي حصل عليهما المعهد عامي 2016 و2017.
اقرأ/ي أيضًا:
عن ندوة المركز العربي لاستراتيجيات مقاطعة الاحتلال
المركز العربي للأبحاث..الأكاديميا الحرة في مواجهة البروباغندا والاستبداد