18-مايو-2019

تحولت اختبارات الحمض النووي والتحاليل الوراثية إلى تجارة مربحة (Alamy)

هل فكرت يومًا في أن تخضع لاختبار الحمض النووي لمعرفة تراثك البيولوجي؟ أو المخاطر الصحية المحتملة؟ أو ربما لوضع نظام غذائي يوافق جيناتك؟ أو حتى إيجاد أحد أفراد الأسرة المفقودين؟

خلال السنوات الأخيرة نمى سوق اختبارات الحمض النووي بشكل كبير. ومن المتوقع أن يبلغ بحلول 2020 نحو مليار دولار أمريكي

هل تقبل أن تقدم عينة وراثية بغرض الاختبار والبحث؟ أو تهتم بتخزين بياناتك في قاعدة بيانات كبيرة مع ملايين العملاء الآخرين؟ وهل يساورك القلق بشأن ما يمكن عمله بهذه البيانات والعينة الوراثية من الناحية القانونية وغير القانونية؟

اقرأ/ي أيضًا: هل يمكن للبشر أن يعيشوا للأبد؟

في الحقيقة، جعل فضول الناس حول معرفة أصولهم وتركيبتهم الجينية، بجانب اهتمامهم المتزايد بالصحة والجمال؛ الطلب زائدًا على مجموعات تحليل الحمض النووي المنزلية، وذلك بفضل انخفاض أسعارها والدعاية الكبيرة. فقد احتل تحليل الحمض النووي المرتبة الرابعة عالميًا ضمن أهم 10 اتجاهات للمستهلكين العالميين.

ووصل الأمر إلى المنطقة العربية، حيث ينتشر تحليل الحمض النووي في بلاد الشام، كما ينتشر بين السعوديين بغرض تأصيل جذور القبائل السعودية.

وبلغ الأمر إلى الرياضة تعاقد المنتخب القومي المصري مع شركة DNAFit لمعرفة طبيعة جسم كل لاعب، ووضع برنامج بدني خاص به، بجانب وضع برنامج غذائي خاص بكل لاعب عن طريق البصمة الوراثية. كما أجرى لاعبو النادي الأهلي المصري جميعهم تحليل DNA أملًا في وضع حد للإصابات المتتالية في الفترة الأخيرة.

في البدء كان الحمض النووي

تحتوي كل خلية من خلايا أجسادنا على جزيء الحمض النووي، وهو يحدد سماتنا الشخصية بداية من لون العين وحتى صفات الشخصية. ويمكن أخذ عينات من أي مكان تقريبًا في الجسم، بما في ذلك الجلد وبصيلات الشعر والدم والسائل الأمنيوسي وسوائل الجسم الأخرى.

DNA tests
شاعت اختبارات الحمض النووي بدرجة كبيرة، حتى باتت تستخدم في الرياضة

ولإجراء الاختبار، يتم جمع العينة بواسطة مسحة قطنية، وتمريرها على الخلايا الداخلية لباطن الخد، ثم يتم إرسال العينة إلى المختبر، حيث يُفصل الحمض النووي من الخلايا، ثم تُصنع ملايين النسخ بواسطة تفاعل البلمرة المتسلسل (PCR)، فوجود كثير من الحمض النووي يجعل تحليل الشفرة الوراثية أسهل. ثم تُفصل جزئيات الحمض النووي في مواضع معينة لتحديد بصمة الحمض النووي، وفي تحليل الوالدية يتم مقارنة البصمات من عينتين مختلفتين لمعرفة مدى التطابق.

تقدم الشركات أشكالًا أحدث من الاختبارات الجينية التي تعمل على فك وتحليل كل جين معروف بأنه يحمل تعليمات لإنتاج بروتينات قد تكشف عن طفرات، وتسمى بعملية "تحليل الإكسونات الكاملة" (Whole Exome sequencing)، بينما تقدم بعض الشركات الأخرى تحليلًا للشفرة الوراثية بأكملها، يسمى "تحليل الجينوم الكامل" (whole genome sequencing)، والذي قد يجد أدلة إضافية على المرض.

تبحث الشركات عن الاختلافات الجينية الموجودة المعروفة باسم "اختلاف النوكليوتيدات الفردية" (single nucleotide variations SNPs) المرتبطة بأمراض معينة، وعادة ما تحتاج هذه الاختبارات إلى أمر الطبيب، لكن غالبًا تجد هذه الشركات الطبيب الذي يوقع على هذه الاختبارات للعملاء.

سوق ينمو

كانت الاختبارات الجينية غير شائعة، فلا يطلبها سوى الأطباء فحسب، من أجل تشخيص الأمراض النادرة عادة. كما يلجأ البعض لهذه الاختبارات لتحسين نمط السلوك الغذائي، عن طريق وضع خطة غذائية، طبقًا للمحتوى الجيني، وتقدمها شركات مثل "DNAFit".

مع التقدم التكنولوجي السريع، أصبح إجراء الاختبارات الجينية أكثر سهولة وسرعة وبسعر أرخص، فمن المتوقع أن ينمو سوق الاختبارات الوراثية ليبلغ نحو مليار دولار بحلول العام 2020.

 كما استطاعت شركة "23andMe" الحصول على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، لإجراء اختبارات جينية لاكتشاف السرطان. وفي الربع الأول من العام الماضي أنفقت نحو 27.9 مليون دولار على الإعلان لخدماتها.

إذًا، فمن المتوقع أن تنمو هذه الصناعة خاصة مع تخفيف القيود المفروضة على الاستخدامات الطبية لهذه الاختبارات؛ فقد أعلنت إدارة الغذاء والدواء عن خطط لتسهيل حصول هذه الأنواع من الاختبارات على الموافقة.

مؤيدون ومعارضون

يرحب عديد الأطباء بهذا الاتجاه، قائلين إنه "يوفر معلومات قيمة للناس". فيمكن للمستهلكين أن يكتشفوا مبكرًا ما إذا كانوا معرضين لخطر الإصابة بالسرطان والألزهايمر وأمراض أخرى، واتخاذ خطوات لحماية أنفسهم. يمكن أن يساعد الاختبار أيضًا في تحديد الأدوية الأكثر أمانًا والأكثر فعالية لاستخدامها.

DNA tests
يعتقد قطاع كبير من الناس، أن اختبارات الحمض النووي تحولت إلى بيزنس أكثر من كونها علم

فيما يرى آخرون أن هذه الاختبارات لا زالت في مهدها، وأن النتائج غالبًا ما تكون غير حاسمة ومربكة، وأن الرابح الوحيد في هذه المسألة هم المستثمرون الذي يسوقون هذه الاختبارات غير المكتملة والمضللة.

ومع ذلك، يظل النجاح التجاري لشركات جديدة غير مضمون؛ خاصة مع التحديات الجديدة، ومع توقع فرض لوائح جديدة خاصة، وتزايد المخاوف من سرقة البيانات، ومدى الدقة العلمية لهذه الاختبارات والتأثير النفسي لها على المستهلكين.

مخاوف مشروعة

قواعد بيانات الحمض النووي عرضة للاختراقات، ففي حزيران/يونيو الماضي، أعلنت شركة "MyHeritage" عن تعرضها لسرقة عناوين البريد الإلكتروني لـ92 مليون مستخدم. وفي عام 2015، سرقت رسائل البريد الإلكتروني وكلمات المرور لنحو 300 ألف مستخدم من موقع "Ancestry.com". ومع أنه لم يتم اختراق المعلومات الوراثية للمرضى، لكن مع زيادة شعبية هذه الاختبارات، لا شك أن محاولات اختراقها ستكون أشرس من ذي قبل.

وتسرب هذه البيانات، سواء باختراقها أو سرقتها أو بالخطأ البشري، يمكن أن يؤثر سلبًا على هؤلاء الأفراد من ناحية فرص العمل والعلاقات وأقساط التأمين. ومع أن قوانين حماية البيانات موجودة بالفعل، ومنها قانون عدم التمييز في المعلومات الوراثية، الذي أقرته الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يُمنع بموجبه أي تمييز في التوظيف أو التأمين الصحي. لكنه لا يغطي التأمين على الحياة أو تأمين الرعاية طويلة الأجل أو التأمين ضد العجز، وهو الحال ذاته في بريطانيا وبلجيكا وإيطاليا.

ويمكن لشركات التأمين على الحياة أن تكون أكثر انتقائية بشأن من تغطيه ومقدار الرسوم المفروضة للتأمين. وإذا كنت تعتقد أنه يمكنك إخفاء نتيجة الاختبار، فأنت مخطئ، ففي أستراليا يتحتم على من قام بإجراء اختبار الحمض النووي أن يكشف نتيجة الاختبارات عند التقدم للحصول على التأمين على الحياة، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى زيادة الأقساط، وربما رفض التغطية بالكامل.

هذا إلى جانب أن الأفراد لا يشاركون معلوماتهم الجينية فحسب، بل ومعلومات عائلاتهم التي يشتركون معها في الرابطة الجينية، وهو أمر خطير بالنظر إلى أنه يمكن الاحتفاظ بهذه المعلومات الرقمية للأبد، وقد تؤثر في الأشخاص الذين هم أطفال الآن، أو لم يولدوا بعد.

ووفقًا لدراسة نشرت في مجلة "Science"، إذا كنت من أصل أوروبي وتعيش في الولايات المتحدة، فيمكن التعرف عليك بواسطة البيانات التي نشرها أقاربك. وقريبًا، قد لا يحتاج القانون إلى أحد أقاربك لمطابقة العينة.

شركات الأدوية أكبر المستفيدين

كما أن هناك مخاوف من استغلال الثغرات القانونية لمشاركة هذه البيانات في أي نشاط غير مصرح به. على سبيل المثال تصرح شركة "23andMe" بأنها لا تشارك المعلومات الوراثية دون موافقة العميل، لكن تتيح سياستهم مشاركة البيانات التي تم إخفاء هويتها، أو تجميعها بشكل لا يمكن عن طريقه تحديد هوية صاحبها. ومع ذلك يمكن بسهولة التعرف على هوية أصحابها، كما أن اتفاقيات المستخدم عادة ما تحتوي بنود مبهمة لدرجة أن معظم الناس ليس لديهم أدنى فكرة عما يوافقون عليه.

اختبارات الحمض النووي
يمثل بيزنس اختبارات الحمض النووي تهديدًا حقيقيًا لخصوصية الذين أرجوا هذه الاختبارات

وأكثر الجهات استفادة من هذه المعلومات، هي شركات الأدوية، حيث تبيع شركات اختبارات الحمض النووي المعلومات الوراثية للمستخدمين مجمعة لشركات الأدوية من أجل تطوير عقاقير جديدة. وقد صرحت شركة "23andMe"، بأنها قامت بالفعل ببيع بيانات المستخدمين لشركة "GlaxoSmithKline"، في صفقة قدرت بـ300 مليون دولار. كما تشتري شركة "Calico Life Sciences" -شركة للتكنولوجيا الحيوية يمولها المليارديرات في وادي السيليكون- المعلومات الوراثية من شركة "Ancestry".

ربما تعتقد أن هذا هدف نبيل وتعاون مع البحث العلمي، بهدف مساعدة من يعانون من أمراض عصية على العلاج، لكن بالنسبة لآخرين، يعد هذا تعديًا على خصوصيتهم وانتهاك لها. فمن الممكن تحديد الطفرات الفريدة في عينة مجهولة من الحمض النووي ومقارنتها بقواعد البيانات العامة لتحديد المتبرع.

علاوة على ذلك، في حين تقدم الشركات المعلومات الجينية لمقدم الطلب فحسب، إلا أنها يمكنها الاحتفاظ ببيانات الحمض النووي للأبد، إما للاستخدام في المستقبل أو زيادة قيمة الشركة في حالة تم بيعها مستقبلًا، كما أنه في حالة تخزين المعلومات ومعالجتها بواسطة فروع أخرى من الشركة موجودة في بلد آخر، فمن الممكن أن تصبح اتفاقية الخصوصية مع العميل خاضعة لقوانين البلد الآخر.

ومع غياب القوانين المنظمة، تملي الشركات شروطها والتي تكون منحازة بالطبع لصالحها، لكن من المتوقع أن يجبر قانون الاتحاد الأوروبي الجديد لحماية البيانات الشركات على التفكير بعناية في كيفية تعاملها مع بيانات العملاء.

نتائج غير الدقيقة

كذلك هناك مشكلة الدقة، فقد وُجد أنه عند مقارنة النتائج الوراثية للأفراد نفسهم، التي تم إجراؤها عبر شركات مختلفة، أن هناك تباينًا في البيانات، وقد تعطي نتائج خاطئة.

ففي دراسة أجريت في آذار/مارس عام 2018 نشرتها مجلة "Nature"، وُجد أن نحو 40% من اختبارات الحمض النووي في المنزل، تعطي نتائج إيجابية كاذبة، ما يعني أن يظن الشخص أنه في خطر، في حين أنه لا يعاني من أي مخاطر صحية. ومثل هذه الإنذارات الكاذبة يمكن أن تسبب توتر كبير للمرضى، وتجبرهم على الخضوع لاختبارات أو إجراءات باهظة الثمن أو غير الضرورية.

وقد تُظهر الاختبارات أن المريض خالٍ من الطفرات التي تعرضه للمخاطر، رغم كونه معرض للخطر، فيعتقد أنه آمن، فلا يقوم بما يجب أن يقوم به، مثل الحصول على التحاليل، أو الخضوع لاختبارات أكثر شمولية.

لذا تعترف شركة "23andMe"، أن اختباراتها ليست للاستخدام "الطبي أو التشخيصي"، وإذا أراد الأشخاص اكتشاف خطر الإصابة بأمراض وراثية، فلا ينبغي لهم شراء أدوات لإجراء الاختبار المنزلي، وإنما بدلًا من ذلك، عليهم الطلب من أطبائهم لإجراء هذه الاختبارات لدى شركات موثوقة، حيث يعمل الأطباء مع مستشارين مدربين بشكل خاص ويمكنهم توجيه المرضى في كل خطوة.

اختبارات الحمض النووي
وجدت دراسة أن 40% من اختبارات الحمض النووي المنزلية، تعطي نتائج إيجابية كاذبة

وهناك العامل النفسي، فمعرفة المرء بأنه يمتلك ما يعوقه جينيًا يمكن أن يكون مزعجًا، لذلك قد يكون من المهم توفير خدمة استشارات قبل إجراء الاختبار الجيني وبعده، وهو أمر بدأت تنتهجه بعض الشركات.

انتهاكات بسبب الجينات

على الجانب الآخر، يمكن أن تستخدم المعلومات الوراثية في القبض على المجرمين. وفي حين أنها تبدو ميزة، لكن قد يساء تفسير المعلومات الوراثية، فيقبض على الأشخاص الخطأ. 

وقد يتعرض عديد الأفراد لسوء المعاملة بسبب معلوماتهم الوراثية، خاصة الأقليات، ففي تموز/يوليو من العام الماضي، وُجد أن وكالة الحدود الكندية، تستخدم بيانات من شركتي "Ancestry.com" و"Familytreedna.com"، لإثبات جنسيات المهاجرين، وترحيل المشتبه بهم. وإذ يشهد العالم توترات شديدة على صعيد العرق والجنسية وفي قضايا الهجرة واللجوء، فليس من الصعب أن نشهد استخدام المعلومات الجينية للفرد ضد أي أسرة أو لتبرير الانتهاكات عمومًا.

قد يتعرض الأفراد لسوء المعاملة بناءً على معلوماتهم الوراثية، خاصة الأقليات. وقد حدث نوع من التمييز في كندا بناءً على المعلومات الجينية

ومع ذلك، لا يبدو أن تقدم هذه الصناعة يتوقف، ففي عام 2017، قام نحو 12 مليون أمريكي بتحليل الحمض النووي الخاص بهم، كما أن نحو واحد من كل ثلاثة أمريكيين، فكّر هو، أو أحد أفراد عائلته، في إجراء اختبار الحمض النووي. ولذا من السهل أن نرى لما تحظى به هذه الشركات من قبول، فمقابل 100 دولار أو أقل، يمكنك معرفة أسلافك والكشف عن طفرات وراثية خطيرة. وكل ذلك دون أن تغادر منزلك، فهل تود التجربة؟!

 

اقرأ/ي أيضًا:

علم الجينات يوجه الضربة القاضية لإسرائيل

هندسة الطبيعة البشرية.. تاريخ وتلاعب