في مدغشقر ثمّة حرب فريدة من نوعها، حرب الفانيليا، إذ ازدادت وتيرة العنف في الدولة الجزرية الأفريقية -الواقعة في المحيط الهادئ قبالة السواحل الجنوبية الشرقية لأفريقيا- مع ارتفاع أسعار قرون الفانيليا، وازداد الخطر المحدق بالبيئة الطبيعية والحياة البرية في مدغشقر، بسبب التنافس على الأرباح، وما يعنيه ذلك التدمير من أجل الحصول على التوابل الثمينة. المزيد من تفاصيل حرب الفانيليا والتوابل الثمينة بمدغشقر، ننقلها لكم مترجمة عن تقرير لصحيفة الغارديان.
كان لصوص الفانيليا في عاصمة مدغشقر، أنتاناناريفو، واثقين في قدرتهم على تخويف المزارعين إلى درجة أنهم أرسلوا تحذيرات مسبقة قبل غاراتهم، فكتبوا في ورقة دسوها تحت عتبات أبواب قرية ساحلية بعيدة في مدغشقر، قائلين: "نحن قادمون الليلة. جهزوا ما نريده".
في مدغشقر، ثمة حرب فريدة من نوعها، حرب الفانيليا، إذ ازدادت وتيرة العنف المحلي هناك مع ارتفاع أسعار قرون الفانيليا
لكنهم إما استهانوا بقيمة سلعتهم، أو بالغوا في تصورهم لوداعة وخنوع ضحاياهم، إذ كان هجومًا واحد في مطلع العام كافيًا ليلقي حشد من أهل القرية، القبض على خمسة أشخاص متهمين بالانتماء للعصابة، وجروهم إلى ميدان القرية ثم بدأوا في تنفيذ مراسم عدالة شعبية دموية.
اقرأ/ي أيضًا: مذبحة أفريقيا الوسطى.. صمت حقوقي واتهامات ضد فرنسا بتأجيج الصراع
قال أحد مزارعي الفانيليا كان واقفًا بين المتفرجين: "قاموا بطعنهم وتقطيعهم بالمناجل والحراب. أظن أن هذا أمر جيد. لم تفعل الشرطة شيئًا. والآن سيخاف اللصوص السرقة منّا. لدينا حرسنا الخاص الآن. شباب من قريتنا يقومون بدوريات حراسة ليلية".
ظلّت عمليات القتل خارج إطار القانون هذه، والتي أكدها كاهن محلي للغارديان، على حالها دون حل ودون أن تصدر بشأنها أية تقارير دولية. لكن حماة البيئة يقولون إنها تسلط الضوء على الكيفية التي ترتبط بها جرائم القرى وتدمير الغابات بارتفاع أسعار الفانيليا في السوق العالمي.
وتعد مدغشقر موردًا رئيسيًا على مستوى العالم لقرون الفانيليا المستخدمة في إضفاء نكهة على المثلجات والكعك والشوكولاتة. لكن رغم سمعتها اللطيفة، أدى ارتفاع أسعار هذه التوابل بعشرة أضعاف خلال الأعوام الخمس الماضية، إلى تطور الخطر في هذه الدولة الجزرية.
بينما تشير التقارير إلى انتشار لصوص المحاصيل في مناطق زراعتها الرئيسية، كما أشارت إلى عشرات من حالات القتل. وقد طالبت بعض القرى والمجتمعات بحمايتها من قبل الشرطة المسلحة. آخرون كما هو الحال في أنجاهانا بالعاصمة أنتاناناريفو، تولوا الأمور بأيديهم.
ويستغرق السفر من العاصمة إلى قرية أنجاهانا الجميلة ذات المناظر الطبيعية الخلابة، رحلة بالطائرة ثم العبارة والزوارق الصغيرة، وأخيرًا رحلتين بالدراجات النارية. في الطريق يشرح لنا حارس الغابات كلوفيس رازافمالالا، كيف نشأت حروب الفانيليا من سوق عالمي ضعيف التنظيم ومن السياسيين المحليين الفاسدين، وسيل الأموال الناتجة عن تجارة خشب الورود غير المشروعة مع الصين.
خاطر كلوفيس بحياته وحريته لفضح هذه الروابط. وباعتباره مؤسسًا مساهمًا في مجموعة للدفاع عن البيئة تسمى "Lampogno"، كشف كلوفيس عن كيفية تهريب خشب الورود عبر ميناء ماروانتسيترا، بمساعدة رجال أعمال محليين مدعومين من سياسيين أصحاب سلطة.
لم يُعاقَب أي منهم، لكن في المقابل اتُهم كلوفيس بتحريضه على الشغب، وقضى عشرة أشهر في السجن، قبل أن يطلق سراحه في أيلول/سبتمبر الماضي بفضل نداء الاستغاثة الدولي الذي أطلقته منظمة العفو الدولية ومجموعات حقوق الإنسان الأخرى. لكن الحكم بالسجن خمس سنوات الصادر ضده، عُلّق فقط ولم يلغَ نهائيًا. وقد بلّغ عن التهديدات والحرائق المتعمدة ضد منزله، دلالة على مدى قوة الأطراف التي يواجهها.
أصبح خشب الورد أكثر سلع الحياة البرية تهريبًا، حيث بلغت المبيعات من مدغشقر وحدها قيمة تساوي مئات الملايين من الدولارات. تقريبًا كلها غير شرعية ومتوجهة إلى الصين، حيث يستخدم الخشب الصلب في صناعة الأثاث. وفي 2014 اعترضت شحنة واحدة بها 30 ألف قطعة خشب في سنغافورة مهربة من مدغشقر.
أصبح خشب الورد أكثر سلع الحياة البرية تهريبًا، حيث بلغت المبيعات من مدغشقر وحدها قيمة تساوي مئات الملايين من الدولارات
هذه الشحنة المهربة التي تعد واحدة من أكبر الشحنات المضبوطة وفقًا لمعاهدة التجارة العالمية لأصناف الحيوانات والنباتات البرية المعرضة للانقراض، جاء تصريحها من مسؤولين حكومييم كبار، وفقًا للمستندات التي قدمت للمحكمة.
اقرأ/ي أيضًا: اليمن.. محميات عدن الطبيعية مهددة!
منذ ذلك الحين تباطئت حركة التجارة في خشب الورد. لكن بحسب كلوفيس استخدمت العصابات التي كانت تعمل سابقًا في تهريب وتجارة خشب الورد، شبكاتها القائمة بالفعل في بيع الأنواع البرية المعرضة للانقراض، وغسل الأموال عبر صناعة الفانيليا. "كلهم نفس الأشخاص الذين طالما تربحوا من هذه الأمور"، على حد قوله.
ويتشارك العديدون وجهة نظر كلوفيس، إذ قالت هاريسوا رافاومانالينا المتخصصة في تشريح الخشب بجامعة أنتاناناريفو، إن "استخدام تجارة الفانيليا في غسيل الأموال المكتسبة عن طريق التجارة غير الشرعية في خشب الورد؛ هي حقيقة معروفة. تقف مافيا كبيرة خلف هذا الأمر وهم مقربون من حكومتنا".
ارتفعت أسعار الفانيليا بسبب الطلب المتزايد عليها باعتبارها نكهة طبيعية في الدول الغنية، بالإضافة إلى الأعاصير التي عطلت الإنتاج، وكذا لتفشي الجريمة.
لكن، يعتقد خبير الصناعة سيرج راجاوبيلينا، أن نسبة 5 إلى 10% من الزيادة في الأسعار الخاصة بالفانيليا، تسببت بها مضاربات تجار خشب الورود، موضحًا: "كانت جيوبهم متخمة بالأموال، وحين رأوا ارتفاع قيمة الفانيليا ملئوا مخازنهم بها، وقد أدى هذا إلى عجز في السوق أدى بدوره إلى ارتفاع الأسعار".
ويدير راجاوبيلينا منظمة "فانامبي - Fanamby"، وهي مؤسسة غير حكومية تعمل مع آلاف المزارعين المحليين لتحقيق إنتاج مستدام وقابل للضبط والحساب من الفانيليا. وقد دعا المستوردين العالميين لعدم معاقبة المزارعين الذين يأتي الكثير منهم من مجتمعات فقيرة، بل النظر بدقة في مصدر منتجاتهم.
ويتوقع راجاوبيلينا أن يدفع تفشي الجرائم، الأسعارَ لمزيد من الارتفاع. يقول: "يحصد المزارعون محاصيلهم مبكرًا بدافع من الخوف. ما يعني أن فقاعة الفانيليا ستكبر بسبب الطلب المرتفع وضعف الجودة وانخفاض مستويات الإنتاج".
وتزيد الفانيليا من وتيرة تدمير الغابات، ففي حديقة ماسالا الدولية التي تعد من أكثر الغابات حماية في مدغشقر وموطنًا للعديد من فصائل الليمور المعرضة للانقراض، بإمكان الزوار سماح أصوات المناشير الكهربائية ورؤية جذوع الأشجار المقطوعة حديثًا. وفي إحدى المناطق داخل حدود الحديقة، افتتحت مساحة صغيرة لحصاد الفانيليا.
يقول السكان المحليون إن بيع كيلو جرام واحد يجلب مليونًا ونصف من العملة المحلية أرياري، أي ما يعادل 360 جنيهًا إسترلينيًا، وهو عشرة أضعاف الثمن قبل سنوات قليلة. ومع هذا الدخل الإضافي يبني السكان مزيدًا من المنازل الكبيرة مستخدمين أخشابًا من الغابة.
ويبدو التغيير واضحًا وجليًا في مارافوتوترا، وهي قرية على حدود الحديقة. ويقول أحد السكان المحليين، يدعى جان فيكتور، إنه ضاعف مساحة الزراعة على الرغم من إصراره أن كل حقوله تقع خارج حدود المنطقة المحمية.
ويقول حراس الغابات إن قطع الأشجار يتم في الخفاء لتجنب كشفهم عن طريق الأقمار الصناعية. لكن تآكل الغابات يزداد سوءًا بسبب سيل الناس الذين قدموا إلى أطراف المنطقة المحمية. يلوم حارس سابق للحديقة يدعى أرماند ماروزافي، والذي يعمل الآن لصالح منظمة "Lampogno"؛ السلطات على هذا الأمر.
ويقول أرماند: "الفانيليا هي القوة المحركة الآن لتدمير الغابات بسبب زيادة أسعارها، وقد رأى الناس كيف تجاهلت الحكومة القانون ودمرت الغابة لأجل بيع خشب الورد. لهذا يشعرون أن بإمكانهم فعل نفس الأمر لأجل الفانيليا. هي مشكلة جديدة تمتد جذورها إلى مشكلة قديمة".
قضى ماروزافي خمسة أشهر في السجن في 2015، ظاهريًا بتهمة التشهير بعد أن أدان عمليات التحطيب غير الشرعية. وتقول منظمات حقوق الإنسان إن عمليات تجريم المنتقدين هذه أصبحت شائعة أكثر من ذي قبل، فقد أدين الصحفي فيرناندو سيلو بتهمة التشهير بعد تقريره الذي أشار فيه إلى منجم ياقوت غير شرعي.
وتعرض رايموند مانديني لضغوط قانونية مشابهة بعد مهاجمته لمشروع لتعدين المعادن النادرة في شمال غرب بلدة أمبانجي. وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي حكم على ناشط في مجال حماية البيئة يدعى رليفا بالسجن لمدة عامين بعد تقصيه عن تصاريح لمنجم ذهب.
ووفقًا لندرانتو رازاكامانارينا رئيس تحالف فوهاري غاسي، وهو مجموعة حماية للبيئة تسعى لبناء شبكة من نشطاء حماية البيئة، لا تكمن المشكلة فقط في الطلب المرتفع على سلع مثل الفانيليا وخشب الورد والمعادن النفيسة، بل في نقص الإرادة السياسية لمواجهة الفساد وتعزيز المساءلة القانونية.
باتت الفانيليا هي القوة المحركة لتدمير الغابات والمحميات الطبيعية بمدغشقر، لزراعة المزيد منها بعد ارتفاع سعرها
أضاف قائلًا: "لا توجد ديمقراطية في مدغشقر اليوم. الناقدون وليس الجناة هم من يتعرضون للمحاكمة". ربما مشاعر مشابهة قد تشرح لنا لم يلجأ البعض لتحقيق العدالة بأيديهم.
اقرأ/ي أيضًا: