تبدو العلاقة بين الأدب والصحافة ملتبسة، ففي الوقت الذي يُصرّ فيه البعض على أنّ العمل في الصحافة يستهلك طاقة الكاتب الإبداعية؛ يقول آخرون إنّ الأمر دائمًا ما يُغني تجربته، ويضيف إليها ما يجعلها أحيانًا تجربة متفرّدة ومميزة. وبين صحافة تتطلّب الالتزام، وأدب يتطلّب الحرية والتأمّل، يتبادر إلى ذهن الإنسان أسئلة من قبيل: كيف يتعامل الكتّاب عادةً مع عملهم في الصحافة؟ وكيف يجمع الكاتب بين الأدب والصحافة معًا؟ وما الذي تأخذه الصحافة من الأدب؟ وما الذي تعطيه؟ وكيف تؤثّر عادةً على أعمال الكاتب الأدبية؟
هنا أربع شهادات تقدّم مقارباتها الخاصة لهذه التساؤلات.
ابتسام عازم: أحقد على الصحفية التي في داخلي
أثّر تكويني الصحفي حتّى على كتاباتي في المجال الأدبي من ناحية الاعتناء بتركيبة النص وإيقاعه، وموسيقاه التّخلص من المقاطع التي قد تكون جميلة لكنّها لا تخدم قوّة النص الأدبي خاصّة في المراحل التي تلي المسودة الأولى أثناء تحريري النصّ. كنت قد تعلّمت النظريات الأدبية أثناء الدراسة الجامعية للأدب الألمانيّ والإنجليزيّ وعن طريق القراءات طبعًا. بعد أنْ أنهيت الماجستير في الأدب الألمانيّ والإنجليزيّ والدراسات الإسلامية والشرق أوسطية من جامعة فرايبوغ الألمانية حصلت على منحة في ألمانيا لسنة ونصف قمت من خلالها بعمل دراسات تكميلية كصحفية ومحرِّرة في الإعلام المسموع والمرئي والمكتوب.
لقد تتلمذتُ على يد أساتذة ألمان، كانوا صحفيين ويدرسون كذلك الإعلام، خلال تلك الدراسات التكميلية فهمت بشكل أفضل تطبيق النظريات الأدبية أو السياسية وغيرها وأهميتها في العمل الصحفي. وتعلّمت كذلك على تغذية الحس النقدي الداخلي وعدم الخشية من تحرير النصوص (الصحفية في حينه ولكن الكلام ينطبق كذلك على الأدب ومجالات أخرى).
وعلى الرغم من أنّ أُسس الكتابة الصحفية هي نفسها، لكنّ لكل مجال إعلامي خصوصيته. ولأنّني عملت ولسنوات في كلّ واحد من تلك المجالات الصحفية، أي الراديو ومن ثمّ التلفزيون وحاليًا الصحافية المكتوبة، فلقد ترك كل مجال أثره. عندما تُعدّ مثلًا تقريًرا صحفيًا للتلفزيون، عليك الاعتناء والتفكير، بعد الأساسيات بالمعلومات والمصادر إلخ، بالصورة. الصورة وبناء التقرير الصحفي للتلفزيون وتأثيراتها "السينمائية" من ضروريات العمل الصحفي المرئي. هذا ساعدني، إضافة إلى السينما، لإدخال وفهم العناصر السينمائية وتوظيفها في النصّ الأدبي.
أما الأدب فساعدني فيما يخصّ الصحافة بتأطير النصّ بشكل جذاب وخاصّة إذا تحدّثنا عن فن الريبورتاج الصحفي. وككاتبة في المجال الإبداعي والروائي، تعلّمت أنْ استمع وأهتم بالتفاصيل الصغيرة إن أردت الاقتراب من الأشخاص في العمل الصحفي وخاصة الريبورتاجات.
فيما يخصُّ ما تأخذه الصحافة من الأدب وبالعكس. الأمر يختلف حسب نوعية العمل الصحفي، ولكن في حالتي والعمل كمراسلة فهذا من جهة يُغذّي معلوماتي ومعرفتي ويدخلني إلى عوالم لم أكن ربّما لأغوص بها لولا العمل الصحفي ولكن في نفس الوقت هو عمل مرهق جدًا ومجال الراحة والوقت المكرّس للكتابة الروائية فيه قليل بسبب ضرورة المتابعة الدائمة للكثير من الأمور مما يجعلني كروائية "حاقدة" على الصحفية التي في داخلي.
وجدي الأهدل: التوأمان
ما إن يبدأ الكاتب بنشر أعماله هنا وهناك حتّى يجد مهنة الصحافة تناديه. وأعتقد أنّ هذا الأمر يحدث مع معظم ممارسي الكتابة، والغالبية تستجيب لهذا النداء ولو لفترة زمنية محدودة.
ومهنة الصحافة لها عدّة فوائد قد لا تتوفّر في غيرها من المهن، فهي تعطي للكاتب أوّلًا مصدرًا للدخل. وفي الوقت نفسه، تبقيه مرتبطًا بمجاله الإبداعي، كما تمنحهُ، وهذا هو الأهم، نوعًا من التدريب الشّاق الذي تظهر نتائجه الإيجابية مع مرور الأيام. وصحيح القول هتا إنّ الصحافة تلتهم الوقت المخصَّص للإبداع، بل وتلتهمهُ بشراهة. لكنّها في المقابل تعلّم الكاتب أشياء جديدة كلّ يوم عن مهنة الكتابة.
أصدقائي الكتاب الذين لم يعملوا في الصحافة، ألاحظ أن اهتمامهم بإمتاع القارئ ليس من أولوياتهم. العمل في الصحافة يخلق لدى الكاتب وعيًا حادًا بالجمهور العام، وهذا يعكس نفسه على أسلوبه الكتابي، من حيث الحرص على متعة القارئ، وكذلك اتخاذ أسلوب بسيط وواضح قريب إلى لغة الصحافة. وأيضًا، يساعد العمل في الصحافة على مرونة التفكير من جهة. ومن جهة ثانية، فإنّ العمل تحت الضغط يُعلّم الكاتب الالتزام بإيقاع معيّن في الكتابة.
الصحافة هي أيضًا بحاجة ماسّة إلى أقلام الأدباء لتجديد نفسها، والارتقاء بلغتها، وتقديم مواد بنكهة أدبية. والصحافة الذكية تدرك هذا وتعمل دومًا على الاستفادة من الكتّاب وقدراتهم الإبداعية. إذن، العلاقة تكاملية بين الطرفين، وكلّ منهما يكمل عمل الآخر ويطوّره. وبدون الصحافة فإنّ الموهوبين في الكتابة لن يجدوا فرصتهم في النشر وبالتالي لن يسمع بهم أحد، وبدون الأقلام الموهوبة فإنّ الصحافة ستغدو فقيرة في محتواها وضحلة فكريًا ومجرّد أداة بائسة للنميمة!
طارق إمام: وهل أضرّ الأدباء بالصحافة؟
"لا تعمل بالصحافة، ابتعد عنها، ستلتهمك، ستقضي على إبداعك، ستغتال لغتك، ستنتهك خيالك، ستأخذك لحماً وترميك عظماً"، كانوا يحذرونني من الاقتراب، وينبِّهونني للغول الذي سيفتك بموهبتي وسيقضي على إبداعي الواعد. جميعهم كانوا صحفيين، وجميعهم كانوا مبدعين!
كنت أسأل نفسي السؤال البديهي: ولماذا لم تهجروها أنتم؟ وكنت أسأل سؤالًا آخر لا يخلو من منطقية: ولماذا لم تقتل الصحافة غابرييل غارسيا ماركيز وجمال الغيطاني، وكلاهما كاتب عظيم وصحفي حتى النخاع؟ كلاهما، والنماذج الشبيهة عديدة، كان صحفيًا "ميدانيًا" بمعنى الكلمة، حياته نفسها، لا لغته أو خياله، هي المهدّدة. بل إن الصحافة أمدتهما بأفكار وموضوعات أسهمت في أدبهما وغذّته ومنحته منعطفات حاسمة. لم أكن أريد العمل في الصحافة لأنّها عمل يبدو مناسبًا للكاتب، بل لأنّني أحبّ الصحافة، وكنت أحرر من طفولتي مجلّات كاملة مبوبة بمقالات وقصص ورسوم بما في ذلك كلمة رئيس التحرير الذي كان بالطبع أنا.
عملت كصحفي شارع، وكل تحقيقاتي كانت من الشارع، لم أهاتف يومًا مصدرًا ليُملي عليّ "كلمتين" أسكبهما في تحقيق. وكانت موضوعاتي المفضّلة عن الهامشيين والمناطق المنسية، باعة يانصيب، قتلة متقاعدين، "خرتية"، قاطني المقابر، صانعي المانيكانات القديمين، الداعرات المعتزلات في قاهرة الماضي السرية.
هذه هي الصحافة التي أحببتها ومارستها، بوجدان المبدع بالذات، قبل أن أنتقل لمهنة محورية في الصحافة تمثّل "الخطر الحقيقي" على الكاتب، وهي مهنة "الديسك" أو "التحرير". أنت هنا تمنح لغتك وأسلوبك وأفكارك لآخر، ويصل بك الأمر لكتابة موضوع بالكامل من الألف للياء لتضع عليه، بأريحية، اسم شخص آخر، وقد حولت "نواياه" الصحفية لكتابة محترفة. مهنة تلتهم الوقت واللغة وتنهك الذهن وتنزع عن الكاتب أنانيته ونرجسيته لأنها تنزع شيئًا من لغته وأسلوبه من أجل شخص آخر، والأدهى في موضوع قصير العمر لن يمكث لأيام، وربما ساعات، أمام ترس الاستهلاك اللحظي.
رغم ذلك، وجدتُ في هذه المهنة "ضالّة" أخرى، وهي شحذ اللغة. فأنت تراقب نفسك كي لا تكرر كلمة مرّتين في إطار جملة واحدة، وتحتال على "الكليشيهات" الصحافية بإيجاد مرادفات للكلمة نفسها، و"تشطف" الزوائد الفائضة لتصل إلى عمق ما يجب أن يقال بوضوح. استفدتُ كثيرًا من عملي كمحرر، على مستوى الرهافة اللغوية في التنقل بين المفردات المتاحة، خاصّة عندما تكون مجبرًا على التحرك في معجم ضيق وبين عدد ضيق من المفردات من الأساس.
ثمّة نقطة أخيرة: هل يفضل للمبدع أن يعمل مدرسًا أو محاسبًا أو موظفًا في بنك من أن يمسك بورقة وقلم؟ إجابتي الحاسمة هي لا. وفي الحقيقة، فربما يكون السؤال العكسي وجيهًا أيضًا وهو أحد أسئلتي الدائمة: هل أضرّ بعض الأدباء بالصحافة حين اعتبروها مهنة هامشية الهدف الوحيد منها هو استكمال "البريستيج" والوجاهة، وتعاملوا معها بتعالٍ كنزهة، واستثمروها لترويج أنفسهم وللتقرب من السلطة؟
أحمد مجدي همام: قد تكون الصحافة وبالًا على الكاتب إذا جرّته إلى الأدلجة
عمل الأديب بالصحافة يحمل مزايا وسلبيات في آن معًا، وأنا أتحدّث من واقع تجربة ممتدّة لعشر سنوات في الصحافة المصرية والعربية. ويُمكنني هنا أجمال المميزات في الآتي: تمنح الصحافة قبل أي شيء الثقة في النفس، ويا سلام لو أنّ هذه الثقافة صادرة من ذات موهوبة أصلًا.
فها هو الصحفي يكتب مقال يومي أو أسبوعي يصدر في طبعات ورقية بعشرات الآلاف من النسخ التي يقرأها الجمهور، وهذا عامل مشجّع طبعًا. وما تمنحهُ الصحافة أيضًا هو إمكانية الحفاظ على يد دافئة، في لياقة المباريات، قادرة على الانخراط فورًا في أي نصّ وفق طبيعة العمل الصحفي، واليومي منه تحديدًا، وهذا قد ينعكس إيجابًا على النصوص الأدبية.
إذًا، هذه ميّزة أخرى. وبالمثل أيضًا، فإنّ بعض المواقع في العمل الصحفي، مثل موقع محرر الديسك، تعطي الكاتب تمرينًا يوميًا على التدرّج في مستويات اللغة، وفرز الغث من السمين، وتمييز الترهّلات النصّية من اللحم النصّي أو عصب النصّ. وفوق كلّ ذلك، تُعطي الصحافة للكاتب أهم شيء، وهو الدخل الشهري أو الموسمي، أو أيًا كان نوعه، فالكاتب ليس نبيًا، هو إنسان قبل كل شيء ويحتاج لتغطية مصروفاته وتدبر شؤون حياته.
على الجانب الآخر، قد تكون الصحافة معطِّلة للكاتب في مناح عدّة، أهمها الوقت. وليس المقصود بالوقت هنا عدد الساعات اليومية المستهلكة في وردية العمل، بل العمر المنقضي كاملاً في المهنة. ولذلك ربّما أشار الأمريكيّ إرنست هيمنجواي في "وداعًا أيها السلاح" إنْ لم تخني الذاكرة، إلى أنّ الأديب الصحفي يجب ألاّ يعمل في الصحافة لأكثر من سبع سنوات، وإلاّ ستشفطه المهنة وتستهلك سنواته. وطبعًا هذه النصيحة بنت سياقها، فهي تناسب كاتب أمريكيّ عاش في باريس مطلع القرن الماضي. ولكنّنا نستطيع أيضًا القياس عليها، أو صياغة معادل لها يناسب كاتب عربيّ يعيش في هذه الأيام.
ثمّة أمر آخر، وهو أنّ الصحافة قد تكون وبالًا على الكاتب إذا جرّته إلى "الأدلجة" أو الانحيازات الفكرية. ولو طفحت تلك الأيديولوجيات في كتابته الأدبية، فهذا الأمر بالقطع سيؤدّي إلى تدهور تلك الكتابة ورداءتها. وجرت العادة في الوسط الصحفي على انتشار الصراعات المهنية والشجارات والمزاحمات والتهافت وكل تلك المظاهر البائسة لمجتمعات تعاني. وأتصوّر أنّ تورط الكاتب في تلك الصراعات مؤشر خطير على انحراف مساره وتشتيت طاقته في مصارف غير منتجة.
اقرأ/ي أيضًا: