ألترا صوت - فريق التحرير
صدر حديثًا عن "منشورات المتوسط" في ميلانو، كتاب "ماركس والطبيعة البشرية - نقض الأسطورة"، للمؤلف والمنظر السياسي نورمان گريس، وترجمة الطيب الحصني.
وجاء في كلمة الغلاف: "لم يرفض ماركس فكرة الطبيعة البشرية. وقد كان على حق في ذلك" هذا ما يصل إليه هذا العمل الجديد، والجريء، والجدلي، بقلم نورمان گريس. حيث يضع گريس في هذا الكتاب سادس أطروحات ماركس عن فيورباخ تحت عدسة المجهر الصارمة، ويجادل گريس بأن هذه العبارة الغامضة – التي يُستشهد بها على نطاق واسع كدليل على أن ماركس قد تخلى عن جميع مفاهيم الطبيعة البشرية في عام 1845 – ينبغي أن تُقرأ في سياق عمل ماركس ككل. حيث استرشدت كتاباته اللاحقة بفكرة الطبيعة البشرية المحددة التي تفي بكل من الوظائف التفسيرية والمعيارية.
فگريس يرى أن الاعتقاد بأن المادية التاريخية لماركس تستلزم إنكاراً لمفهوم الطبيعة البشرية، هو عبارة عن "رأي قديم تغذى عليه التأثير الألتوسيري ...لأن هذه العبارة لا تزال شائعة ومضللة، ولا يزال هناك ضرورة حقيقية لدراستها".
وبعد مرور مئة عام على وفاة ماركس، يعيد هذا الكتاب الذي جاء في الوقت المناسب - حيث يجمع بين قوى الفلسفة التحليلية والماركسية الكلاسيكية - اكتشاف جزء مركزي أساسي من تراثه.
يذكر أن المؤلف نورمان گريس ولد عام 1943 في روديسيا (زيمبابوي حاليًا). منظر في العلوم السياسية وأستاذ فخري للعلوم السياسية في جامعة مانشستر. ساهم في تحليل أعمال كارل ماركس في كتابه هذا، وله العديد من الدراسات الأكاديمية في هذا المجال. ألف العديد من الكتب ومن أهمها: "التضامن في محادثة البشر" و"ماركس والطبيعة البشرية" و"تراث روزا لوكسمبورغ".
فيما يلي مقاطع من مقدمة هذا الكتاب.
إنكَ لن تقضي وقتًا طويلًا ضمن الماركسية – أو حتّى في النقاش عنها – دون الالتقاء بالرأي القائل إن أحد الأشياء التي تركها مؤسّسُ هذا التراث الفكري هو إنكار وجود طبيعة بشرية جامعة. وَجَدَتْ وجهةُ النَّظَر هذه قبولًا عند الكثيرين، ومن ثمّ، منحتها "اللا-إنسانيةُ النظرية" عند آلتوسير زخمًا وقُوَّة جديدَيْن، ولطالما شعرتُ بأنها وجهةُ نظرٍ فائقة الغرابة. وكان حضوري لندوةٍ معيّنة في إحدى الأُمسيّات في أوائل عام 1979 هو ما قادني إلى الرغبة بالتّصدّي لها. لم يكن موضوع المحاضرة ماركس أو الماركسية، بل كان عن الحاجات البشرية، وما عدتُ أتذكّر تفاصيل النقاش، كل ما أذكره هو أنه جرى التشكيك، بشكل عامّ، بالسلامة النظرية والعملية لمفهوم الحاجات الإنسانية الجامعة، وبرَّرَ هذا التشكيك نفسه جزئيًا – أو هكذا بدا لي – بميول ذات توجّه نسبيّ ومثاليّ. وبما أن أكثر الفلسفة والعلوم الاجتماعية كلَيْهما يعجّ بالثِّيْمَات النسبية والمثالية، فليس هنالك ما يدعو للاستغراب. ولكن هذه المناسبة بَلْوَرَتْ في ذهني استيعابًا: كم هو مُفاجِئ أن الماركسيّيْن أيضًا (ومن بينهم مَنْ يُفترَض أنهم مادِّيُّون) يعتنقونَ ثِيْمَاتٍ مشابهةً إلى حدّ ما، من حيث هذا التشكيك. من الغريب فعلًا – في ظلّ ما قرأتُهُ في فكر ماركس، وأيضًا في ظلّ بعض الوقائع الواضحة بخصوص العالم – أن يكون هذا الادّعاء بأنه رفَضَ الطبيعة البشرية شائعاً ومقبولاً إلى هذا الحدّ.
قلما تعثر في الدراسات الماركسية على ما يدل على أن مؤسّسُ هذا التراث الفكري قال بإنكار وجود طبيعة بشرية جامعة
قرّرتُ أن أبحث لأرى ما هو الموجود في أعمال ماركس، والذي يُقدَّمُ كدليل على هذا الادّعاء، والجواب: ليس بالشيء الكثير ... بل ليس هنالك أكثر من مقطع واحد، يمكن أن نعدّه دليلًا من نوع ما، على الرغم من أن ماركس نفسه لم يرَ أن النّصّ الذي يحتويه جديرٌ بالنشر. وما دون ذلك، يوجد بعض الاقتباسات، والتي إن قِيسَتْ بأهمّيّتها كأدلّة في هذا الموضوع يتّضح أن لا قيمة لها على الإطلاق. والشيء الوحيد الذي له بعض المصداقية هو بعض السطور من أطروحاته حول فورباخ، ولذلك فقد اخترتُ أن أبدأ هذه الدراسة التي بين يَدَي القارئ بتحليل مُمعِن ومُطوَّل لهذه السطور بالذات. قد يجد البعض أن هذا التحليل مُطوَّل زيادة عن اللزوم، ويتساءلون: ما دام هنالك في كتابات ماركس أقوال كثيرة، يمكن الاستشهاد بها، لدَحْض هذا الادّعاء، فلماذا لم أكتفِ ببساطة بالإشارة إليها والتعامل مع المقطع في الأطروحات بمزيد من التساهل؟ وهنا لا أطلب منهم أكثر من تأجيل الحكم على هذا التحليل الافتتاحي حتّى يقوموا باستيعاب الآتي بعده، إذْ إنني آمل أن الفصول التي تليه سوف تُقنعِهُم بضرورة هذا التحليل.
اقرأ/ي أيضًا: ماردٌ يسرق شبح ماركس: تدمير العالم من أجل إنقاذه
أمّا هنا، فيكفي أن نقول التالي: هنالك الكثير من التعليقات على ماركس التي نبَّهت إلى الأدلّة المعاكسة لهذا الادّعاء، ولا فائدة تُرجى من تكرارها وحسب. ولكنْ، عبر التركيز في البداية على النّصّ الذي يُعدّ أفضل دليلٍ للادّعاء الذي نودُّ الطعن فيه، فإننا أوّلاً نواجه هذا الادّعاء على أرضه كما يقال، أو بتعبير آخر: نواجهه في الموضع الذي يقولون إنه نقطة قُوَّته. وفي فعل ذلك، ما يمكن الاستفادة منه: فعلى الرغم من أن ما سنُوْسعه تحليلًا هو سطورٌ قليلةٌ حقًّا، لكنَّ هذه السطور مُنحَت وزنًا ثقيلًا في تفسير ماركس؛ إذْ بالاستناد إليها استطاعت أسطورة أنه أنكر مفهوم طبيعة إنسانية فطرية أن تنجو في وجه الأدلّة النّصّيّة التي تشهدُ بأنه لم يُنكْرها. وهذه الأخيرة إمّا يجري تجاهلها، أو إذا تمّ الاعتراف بوجودها، يجري التعامل معها على أنها مُجرَّد إحدى "القراءات" لماركس، والتي يوجد لها "قراءة" بديلة تعارضها، أو يُقال بأنها لا تمثّل الميل الحقيقي، أو الأكثر جوهرية في فكره الناضج، وهكذا دواليك. ولكنّ تفحّص السطور المشار إليها في الأطروحات على فورباخ سوف يوضح أن معناها ليس في الواقع شفّافاً، بل يمكن فَهْمها بعدد من الطُّرُق. وعندما يتمّ وضع هذه الاحتمالات الممكنة لهذا المقطع في سياقها الوحيد الممكن من أجل الحصول على تقييم صحيح، يتبيَّنُ أن هذا التفسير لفكر ماركس – والذي اتّخذ من هذه السطور نقطة ثِقَل كبرى – غير ممكن على الإطلاق، بل يَجدُ نفسه بلا أدنى أحقّيّة في الاحترام، من حيث فقه اللغة.
الجانب الثاني من مقاربتي هنا، والذي ينبغي الإشارة إليه هو أنني آخذ هذا التفسير على حرفيّته، فالادّعاء بأن ماركس رفض مفاهيم الطبيعة البشرية الجامعة كلها يجري تفسيره بالمعنى الحَرْفي. وأبرر ذلك بأن أدعياء هذا القول أنفسهم يُشدِّدونَ على أن ما عارضهُ ماركس لم يكن مُجرَّد وجهة النَّظَر الفلانية أو العلانية عن الطبيعة البشرية، بل: فكرة وجود طبيعة بشرية أصلًا، وهو هذا التشديد وحدهُ، في الحقيقة، الذي يبررُ الرّفعَ من شأن وجهة نَظَرهم، لتبدو وكأنها ادّعاء نظري جريء، وذو قيمة، وويوضح لنا شيئًا مميّزًا بخصوص ماركس. كذلك سوف لن تكون دراستي منطقية أو ذات فائدة، لو أن الادّعاء يتوقَّفُ على أن ماركس رفضَ بعض مفاهيم الطبيعة البشرية وحسب، إذْ مَنْ هو ذاك الذي لا يرفض بعضها؟ وأنا واعٍ، في الوقت نفسه، إلى أن التعامل مع هذا الادّعاء بالذات بهذه الطريقة المباشرة والواضحة يضفي شيئاً من الغرابة، ونوعًا من اللاواقعية، على أجزاءٍ من النقاش، ومن الممكن أن يدفع ذلك البعضَ إلى القول بأنه من اللباقة الفكرية أكثر، إذاً، أنْ يَتبنَّى المرءُ تعريفاً أضيق لما ينبغي عَدّه "مفهوم الطبيعة البشرية". حسنٌ، من المؤكّد أننا لو اخترْنا أن لا نشمل تحت هذا العنوان إلا تلك التّصوّرات التي تقول بوجود تكوين بشري جامع ومُستمرّ (والتي اختلف معها ماركس حقًّا)، وتجاهلْنا التّصوّرات الأخرى (التي قَبِلَهَا ماركس، وعبَّر عنها)، عندها، إذاً، سيصبح الادّعاء المدروس مقبولًا جدًّا فعلًا. ولكنني لا أرى سببًا حقيقيًا لفعلِ ذلك، إذْ على الرغم من أن هذا سيكون حَسنةً فكرية، وحُسن نِيّة في النقاش، ولكنه سيضعنا أمام تعريفٍ غريبِ الأطوار، وأسوأ من ذلك، تعريفٍ مائلٍ بطبعه: أي إنه مُنتقى لمراعاة الادّعاء الذي ننتقده، ومُصمَّم، عن عمد، لإنقاذ طَرْح سيّئ، على الرغم من شيوعه. وبالتناقض مع ذلك، فإن وجهة النَّظَر التي نتبنّاها في هذا العمل (حول ما الذي ينبغي عدّه ’مفهوم الطبيعة الإنسانية‘) هي وجهة نظر معيارية، فهي نفسها الموجودة – كما سنرى – في فكر ماركس نفسه. والأهمّ من ذلك، فهي التي يستخدمها المروِّجون لهذا الادّعاء في الحقيقة، على الرغم من أن فعل ذلك يجعل ادّعاءهم غير عقلاني. من الأفضل، إذاً، أن نكون صادقين حول ما يقولونه على أن نكون لَبِقِين تجاهه. وقد حان وقت ذلك منذ زمن بعيد، فالحالة أصبحت تشبه ثياب الإمبرطور الجديدة: هذا الادّعاء يُقدَّم وكأنه موقف فكري واعٍ وجادّ، ولكنْ، ما إن تتفحّص الادّعاء حسب محتواه يتّضح أنه، وبدقّة، غير عقلاني.
لقد رفض ماركس – شأنه في ذلك شأن غيره – أفكارًا معيّنة بخصوص الطبيعة البشرية، ولكنه رأى أيضًا أن بعضها الآخر صحيح. ومن المهمّ التمييز بين النوع الذي رفضه والنوع الذي لم يرفضه، والأكثر أهمّيّة من ذلك أن نحاول التمييز بين الأفكار الصحيحة حقّاً والأفكار الخطأ. وفي هاتَيْن المسألَتَيْن المهمَّتَيْن، لا فائدة من الحديث عن رفضٍ كاملٍ لتصوّرات الطبيعة البشرية، وأتمنّى أن أستطيع في هذا العمل تقديم شيء يحلّ مكان هذا الادّعاء، وأن أُقدّم بدلًا عنه أطروحاتٍ أكثر محدودية، ولكنها، في الوقت نفسه، أكثر دقّة حول ما الذي رفضه ماركس حقّاً في هذه المسألة.
يتوضّح ممّا سبق أن هذه الدراسة لا تنظرُ بعين الإعجاب إلى تفسيرِ ماركس المذكور هذا، والذي هو موضوعها. وفي هذا الشأن، لا أقدّم اعتذارًا، فأنا لا أرى أن النقد الذي تُقدّمه الدراسة غير مُنصِف. ولكنْ، على أيّ حال، لا ينبغي أن يُفهَم من ذلك أنني لا أُقرُّ بأن العديد من الماركسيّيْن الذين أقنعوا أنفسهم (في أقلّ الأحوال) بهذا التفسير الخطأ، فعلوا ذلك بسبب شواغل وهُموم حقيقية ومُبرَّرة، من بين أسباب أخرى. في الجزء الأخير من الكتاب، وعند الانتهاء من تمعّن النصوص اللازمة، أعود لتفحّص هذه الأسباب التي تدفع بالناس نحو الرغبة في إنكار وجود طبيعة بشرية. وعلى الرغم من أن هدفي هو إثبات أنها ليست أسبابًا كافية، فإنني أقول – حيث أجد هنالك مُبرّرًا للقول – ما هو القلق المشروع الذي جرت المبالغة في تقديمه في طَرْحٍ معيّن لهذا الادّعاء. وعلى سبيل المثال، بينما أنتقد الاعتقاد المطروح بكثرة بأن مفهوم الطبيعة البشرية مفهوم رجعي لا أكثر، فإنني أقرُّ بأن هنالك تنويعات رجعية منه، وأقرُّ أيضًا بالكثرة التي يصطدم بها المرء معها.
بحسب نورمان گريس، رفض ماركس – شأنه شأن غيره – أفكارًا معيّنة بخصوص الطبيعة البشرية
قد يكون هذا هو حقًا العقبة الرئيسة في وجه قبول أوسع للمفهوم لدى الملتزمين بالتغيير الجوهري والتّقدّمي: الانتشارُ الضخمُ للافتراضات المحافظة والرجعية حول ما هو أصيل في البنية البشرية. وانتشارها إلى هذا الحدّ يعود، في جزء كبير منه، على الأغلب، إلى التأثيرات التاريخية للعقيدة المسيحية، بخصوص الخطيئة الأصلية، ولكن هناك مصادر عقائدية أخرى كثيرة ومتعدّدة، دينية وعلمانية أيضًا، جديدة وقديمة، والتي تحتوي، بدورها، على افتراضات بخصوص الشّرّ الإنساني الفطري، وعلى إيمانٍ، بالتالي، بضرورة وجود خباثة اجتماعية من نوعٍ ما أو آخر. مثل هذه الأفكار تُغلِق شوارع الفكر أمام إمكانية التّحرّر من القَمْع الاجتماعي المتعدّد. وإن شيوعها المستشري – مقارنة بالتّصوّرات التّقدّمية للطبيعة الإنسانية – قد يكون هو الطبيعي دومًا، ما دامت المجتمعات الطبقية مُستمرّة. إن ماضيًا طويلًا، وحاضرًا مُستمرًّا، من الاستغلال والشرور التي تصاحبه، سوف يؤدّيان بالتأكيد إلى ولادة تعميمات متشائمة عن المميّزات الشخصية والسلوك النمطي للكائنات البشرية. وإن أيَّ أحدٍ حاول أن يقدّم الاشتراكية كطَرْح عملي جدّيّ أمام أيّ جمهور ليس مقتنعًا منذ البداية بها، لا بدّ وأنه اضطرّ إلى مواجهة نقاشات متشائمة بخصوص "الطبيعة البشرية".
اقرأ/ي أيضًا: المانيفستو في ضيافة القرن 21
وعلى الرغم من ذلك، فإن محاولة الإجابة عن هذا النوع من الجدل، مع ثقل الثقافة المحافظة التي تدعمه، عبر إنكار وجود الطبيعة البشرية، هو عبارة عن مواجهة خصم أيديولوجي قوي بسلاح مكسور. إذْ ليست وحدها هذه الأيديولجيا أو تلك، بل وقائع وحقائق سهلة التوضيح، بعضها من التجارب الحياتية العادية، وبعضها ثمرة بحوث علمية... كلها سوف تؤكّد للمحاورين الذين يستمعون للمرء أن هذا الإنكار غباء. الرّدّ النافع والملائم الوحيد هو التقييم الصحيح لما هي الحاجات والقدرات الأساسية الحقيقية والأصيلة في طبيعتنا البشرية.
اقرأ/ي أيضًا: