هذا مقتطف من كتاب روبرت ماركيز "وداعًا غابو ومرسيدس: سيرة غابرييل غارسيا ماركيز ومرسيدس بارتشا كما يرويها ابنهما" صدر في أواخر تموز/يوليو 2021 عن دار نشر هاربر فيا، وقد نشر هذا الفصل في موقع ذي باريس رفيو على الإنترنت.
لا بد أن الكتابة عن موت الأحباب قديمة قدم الكتابة ذاتها، ومع ذلك فإن الرغبة في القيام بذلك تصيبني على الفور بحيرة بالغة. ينتابني الفزع إذ أفكر في تدوين ملاحظات، ويجللني العار إذ أدونها، وينال مني الإحباط إذ أرجع النظر فيها بعد تدوينها. والذي يشحن الأمر بعواطف مضطربة أن أبي كان شخصًا شهيرًا. فلعل وراء الحاجة إلى الكتابة نزوعًا كامنًا إلى جني الشهرة في عصر الانحطاط هذا. ولعله خير لي أن أقاوم النداء وأبقى متواضعًا، فالتواضع في النهاية هو اللون المحبب لديّ من الزهو. لكن الموضوع ـ شأن أكثر الكتابة ـ هو الذي يختارني، فلا جدوى من المقاومة.
قبل أشهر قليلة سألتني صديقة عن حال أبي مع فقدانه ذاكرته. فقلت لها إنه يعيش الحاضر، صارمًا في ذلك، لا يثقله ماضٍ، ولا تقيِّده توقعات مستقبل
قبل أشهر قليلة سألتني صديقة عن حال أبي مع فقدانه ذاكرته. فقلت لها إنه يعيش الحاضر، صارمًا في ذلك، لا يثقله ماضٍ، ولا تقيِّده توقعات مستقبل. أما الاستشراف بناء على التجربة الماضية ـ وهو ما يعد أمرًا ذا أهمية تطورية وأصلًا من أصول الحكي ـ فلم يعد له دور في حياته.
قالت "هو إذًا لا يعرف أنه فانٍ، كم هو محظوظ".
مؤكد أن الصورة التي رسمتها لها مبسطة. ومصطبغة بالصبغة الدرامية. فلم يزل الماضي يلعب دورًا في حياته الواعية. ولم يزل يعتمد على صدى بعيد من مهاراته التواصلية المعتبرة إذ يطرح على أي شخص يقابله سلسلة أسئلة آمنة: "كيف الأمور؟"، و"أين تعيش في هذه الأيام؟"، و"كيف حال جماعتك؟". ويحدث بين الحين والآخر أن يغامر بحوار أكثر طموحًا فيرتبك في أثنائه، ويفلت منه خيط الأفكار أو تخذله الكلمات. وإذا بالحيرة ترتسم على وجهه، ويعبر به الحرج أيضًا لوهلة، فكأنه نفثة دخان في الريح، أو كأنه خيانة لماضيه الذي كان الحوار فيه بالنسبة إليه في سلاسة التنفس. الحوار الخالص، الطريف، المثير، المستفز. وكم كانت للكونسرفادور، أي المحاور، العظيم مكانة وسط جماعة أصدقائه الأوائل تكاد ترقى إلى مكانة الكاتب.
اقرأ/ي أيضًا: وفاة مرسيدس بارشا.. أرملة ماركيز وملهمته ذات الأصول المصرية
وأيضًا، ليس المستقبل كله وراء ظهره. فكثيرًا ما يسأل عند الغسق "إلى أين سنذهب الليلة؟ لنذهب إلى مكان ظريف. لنذهب للرقص. لمَ؟ ولمَ لا؟" وحينما تغير الموضوع بضع مرات، يجاريك ويغيره.
يستطيع التعرف على أمي ويخاطبها بـ ميشي، وبـ مرسيدس، وبالأم، وبالأم المقدسة. وقبل زمن غير بعد، مضت شهور قليلة شديدة الصعوبة كان يتذكر فيها زوجته على مدار عمره لكنه ينظر إلى المرأة الواقفة أمامه زاعمة أنها هذه الزوجة ويعدها محتالة.
"لماذا هي هنا؟ وفيم إصدارها الأوامر وإدارتها البيت وهي بالنسبة لي لا شيء؟"
فانتاب أمي الغضب.
وسألت مرة في ذهول "ماذا دهاه؟"
"إنه ليس نفسه يا أمي. إنه الخرف". نظرت إليّ كما لو أنني أحاول أن أخدعها. والمدهش أن هذه الفترة انتهت، واستردت أمي مكانها اللائق في عقله بوصفها رفيقته الأساسية. هي السند الأخير. بوسعه أن يتعرف على سكرتيرته، وسائقه، وطاهيته، وقد عملوا جميعًا في بيته لسنين، فباتوا مألوفين له، ودودين معه، يشعر في حضورهم بالأمان، لكنه بات يجهل أسماءهم. وعند زيارتي أنا وأخي، يطيل النظر إلينا ويمعنه، بفضول لا حدود له. يدقُّ وجهانا لديه ناقوسًا بعيدًا، لكنه لا يستطيع أن يتبين من نحن.
يسأل خادمة "من اللذان في الغرفة المجاورة؟"
"ولداك".
"فعلا؟ هذان الرجلان؟ شيء لا يصدقه عقل".
قبل بضع سنوات مرت فترة أقبح. كان أبي واعيًا تمام الوعي بأن عقله ينفلت. ظل يطلب العون طيلة الوقت، مكررًا المرة تلو المرة أنه يفقد ذاكرته. وإنه لثمن فادح يتكبده من يرى شخصًا يعتريه مثل ذلك القلق، إذ يضطر إلى احتمال تكراراته اللانهائية مرة بعد مرة. كان يقول "إنني أعمل بذاكرتي. الذاكرة أداتي وخامتي. لا يمكن العمل في غيابها. ساعدوني". ثم يكرر ذلك بشكل أو بآخر لمرات كثيرة في الساعة ولمنتصف سويعات الأصيل. فترة مرهقة. ومرت في نهاية المطاف. استعاد سكينته وصار يقول في بعض الأحيان "إنني أفقد ذاكرتي، لكن من حسن الحظ أنني أنسى ذلك"، أو "يعاملني الجميع معاملة طفل، ومن حسن الطالع أن ذلك يروق لي".
ماركيز: "إنني أعمل بذاكرتي. الذاكرة أداتي وخامتي. لا يمكن العمل في غيابها. ساعدوني"
اقرأ/ي أيضًا: معلّمو غابرييل غارسيا ماركيز
تحكي لي سكرتيرته أنها وجدته ذات أصيل واقفًا وحده في منتصف الحديقة، شاخصًا ببصره إلى البعيد، غارقًا في أفكاره.
"ماذا تفعل هنا يا دون غابرييل؟"
"أبكي".
"تبكي؟ لكنك لا تبكي".
"بل أبكي. لكن بلا دموع. ألا تدركين أن رأسي الآن هباء؟"
في موقف آخر قال لها "هذا ليس بيتي. أريد أن أرجع إلى البيت. بيت أبي. عندي سرير بجوار سرير أبي".
نشك في أنه لم يكن يقصد أباه، ولكن جده الكولونيل الذي عاش معه حتى بلغ الثامنة (وألهمه شخصية الكولونيل أورليانو بوينديا). كان ذلك الكولونيل صاحب أكبر أثر في حياته. كان أبي ينام على حشية تفرش على الأرض بجوار سريره. ولم ير أحدهما الآخر بعد عام 1935.
تقول السكرتيرة "وهكذا هو والدك، حتى الأمور القبيحة قادر أن يجعلها جميلة حين يحكيها".
اقرأ/ي أيضًا: