بعد أن انتصرت أوروبا في معركة الفصل بين الدين والدولة وتركت وراءَها محاكم التفتيش والعصرَ الكنسي، فتحت الأبواب على مصراعيها للدخول الى عالم الديموقراطية.
بدأت بالبنت البكر للغرب كما كانت فرنسا تسمّى بالبنت البكر للكنيسة؛ ثم بسطت هذه الديموقراطية نفوذها على أوروبا - شرقها وغربها - اليوم أي على الغرب بأكمله.
يعيش المثقفون الأوروبيون اليوم في منطقة من الحرية يحسدون عليها فقد كسروا حاجزَي الدين والدولة معًا وانطلقوا في بحثهم ومسارهم الفني مؤكدين أن الإبداع لا يمكن أن يخضع ولا الى أيّة مُثُلٍ أو أحكام
هذه المعركة كانت سياسية قبل كل شيء وقد حملت لواءها الثورة الفرنسية وكانت لها نتائج مباشرة على الصعيد الثقافي، الفكري والإبداعي بشكل أخص، نحن في غنىً عن التطرق اليها الآن.
وها هي أوروبا، بعد انتصارها الأول على هذه الجبهة السياسية تفتح ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى جبهة جديدة ليست أقل أهمية من الأولى وهي معركة الصراع للفصل بين الدولة والثقافة هذه المرة. هذه الجبهة كانت تتواصل عبر حركات فكرية وثقافية تركّزت في بداية هذا القرن، ولكنها بدأت في أواخر القرن التاسع عشر من خلال الثورات الفنية "الإبداعية" في الرسم والشعر وتبلورت في الحركات المستقبلية والدادائية والسريالية ومن ثم الوجودية...
واصل خلالها المفكرون والمبدعون الأوروبيون معركتهم داخل الإبداع نفسه ومن أجل قيمه ومثله الجمالية والإنسانية، وصاروا يبتعدون شيئًا فشيئًا عن منطقة التأثير والتأثر بالدولة، مستفيدين من الحيّز الديموقراطي الذي تحقق بالانتصار في جبهة الفصل بين الدين والدولة.
ونحن اليوم في الألف الثالث الميلادي، يمكننا القول بأن أوروبا انتصرت في معركتها على الجبهة الثانية في الفصل بين الثقافة وبين الدولة، بالرغم من المد اليساري الاشتراكي الملتزم الذي كان يجر الصراع الى حيز الدولة من وجهة نظر توجيهية إنسانية أو تثويرية. إلا أن انهيار المعسكر الاشتراكي قد سحب البساط حتى من تحت أقدام الأحزاب الاشتراكية واليسارية التي تدعو لذلك في أوروبا، وصار المثقفون اليساريون الأوروبيون يلتقون مع سواهم من مثقفي أوروبا في أن الفصل بين الثقافة والدولة أمر ضروري ومن هنا لا بد من اعادة النظر في فكر الإلتزام وقيمه الواقعية…
يعيش المثقفون الأوروبيون اليوم في منطقة من الحرية يحسدون عليها فقد كسروا حاجزَي الدين والدولة معًا وانطلقوا في بحثهم ومسارهم الفني مؤكدين أن الإبداع لا يمكن أن يخضع ولا الى أيّة مُثُلٍ أو أحكام، خارجًا عن مستلزماته الفنية وبعيدًا عن هواء الحرية، وتركوا الإيديولوجيات والسياسات والأديان في المرتبة الثانية.
أردت من هذا المدخل التأكيد على نقطة مهمة بالنسبة لنا نحن العرب، خصوصًا ونحن نعيش هذا القرن الذي صارت رايته "ثقافية" بالمعنى الشاسع للكلمة، وصارت تحدياته وأسئلته لا تتجاوز الحلبة الثقافية. ومن هنا يأتي سؤال "العولمة" و"الهوية" و"التراث"... الخ.
وهي أننا، نحن العرب، ما زلنا نتخبّط على الجبهتين" جبهة الفصل بين الدين والدولة وجبهة الفصل بين الثقافة والدولة، فلم ندخل معركة بالمعنى الدقيق للكلمة ولم نخرج بعد من الحلبتين اللتين تحتلان واقعنا الثقافي، لذا فإنني أحاول طرح السؤال الآن مستفيدًا من التجربة الأوروبية بكل تجلياتها وانعكاساتها علينا ومفاده: إذا كانت لنا خصوصيتنا في المسألتين - وما أسهل أن نشهر سلاح الخصوصيات للهرب من المواجهة - وإذا كانت مسألة الحسم، عربيًّا، في هذا الجانب تبدو - على الأقل - مؤجلة وإن هي طرحت، فقد طُرحت بشكل فردي متناثر هنا وهناك.
ألم يحن الوقت لتشخيص هاتين الجبهتين، وبالتالي للتفكير في أهمية كل منهما وضرورة الرد والعمل من خلال هذه التحديات التي تحتل كل حياتنا الثقافية والسياسية، من أجل بلورة مسار ثقافي عربي يكون همّه تحديد المنطقة التي يجب أن تتحرك فيها العملية الثقافية.
وإذا كانت جبهة الدين والدولة، سياسية بالدرجة الأولى، فإن جبهة الدولة والثقافة لا يمكن إلاّ أن تكون ثقافية أولًا، وأن على الأدباء والمفكرين تبني مشروع للرد والتحرك في إطار اختصاصهم البحت.
يمكن القول هنا إن المثقفين العرب عندما يكفون عن الاقتتال في ما بينهم، فإن أولى المواجهات التي تُفتح هي الموقف من الدولة معها أو ضدّها، وهكذا يبقى السؤال الإبداعي الفني ومشروع حداثة العمل الفني ومسيرته في هامش السؤال السياسي أو الديني. نحن لا ندخل الى السؤال الجذري والأساسي في العملية الثقافية وهو سؤال الإبداع إلا بعد الاستراحة من معارك جانبية، أو في هامش سؤالي الدين والدولة. ومن هنا يأتي الخلط والتهميش للإبداع والفن، وكأننا نساهم بشكل مباشر وفعّال في عملية التهميش والتبعية هذه. نحن بحاجة لطرح أسئلة الفن والشعر والرواية والسينما والتشكيل وغيرها من أبواب الثقافة وأحوالها داخل أطرها الإبداعية بالدرجة الأولى، تاركين الظلال السياسية والدينية إلى الهامش. أي على العكس مما يجري الآن، فليس المهم أن يكون هذا النص أو هذا العمل الفني ينتمي الى مؤسسة أو حزب أو جهة بقدر ما تهم قيمته الفنية والإبداعية.
ننسى أن أهم شاعر في الحداثة العالمية عزرا باوند كان على رأس إذاعة فاشية تعمل لصالح موسوليني. وننسى أن سان جون بيرس كان أمين عام وزارة الخارجية الفرنسية، وهو الذي وقّع معاهدة ميونيخ السيئة الصيت عام 1939
يبدو أننا ننسى أن أهم شاعر في الحداثة العالمية عزرا باوند كان على رأس إذاعة فاشية تعمل لصالح موسوليني. وننسى أن سان جون بيرس، الذي يحمل هذا الاسم المستعار، واسمه ألكسس ليجيه كان أمين عام وزارة الخارجية الفرنسية، وهو الذي وقّع معاهدة ميونيخ السيئة الصيت عام 1939 والتي سمحت لهتلر باحتلال تشيكوسلوفاكيا وبولونيا، وننسى أن رامبو، رائد الشعر الحديث انتقل بين المسيحية والإسلام ومات وهو يردد "الله كريم، الله كريم"، بعد أن "أسلم" في عدن كما أكّدت ذلك العديد من المصادر والوثائق التي نشرت أخيرًا، وأهمها نسخته الشخصية من القرآن التي عرضتها المكتبة الوطنية الفرنسية في الذكرى المئوية لولادته عام 1955، والتي اقتناها معهد العالم العربي وهي موجودة اليوم في مكتبته.
إن ما هو مهم في كل هذا، لا فاشيّة عزرا باوند ولا تواطؤ سان جون بيرس ولا دينية رامبو.. قد منعت هذه الأسماء اللامعة من أن تكون رائدة حداثتنا ولم تسِء بشيء إلى عبقريتهم الإبداعية.
باختصار؛ ماضينا الثقافي هو الآخر يقدم لنا كل الأمثلة على صحة هذه الملاحظة، ألم يكن أعظم شاعر عربي، متنقلًا بين الملوك والأمراء سعيًا وراء حظوة سياسية أو مالية. ألم يكن المتنبي، وكثير سواه، من شعراء القصور وموائد الأمراء. ولكن هل من يجرؤ اليوم على الانتقاص من عبقرية المتنبي؟
إن سؤال الإبداع يذهب عميقًا مخترقًا الجدار السياسي المرتبط بعامل الوقت والظرف الشخصي، وتلك مسألة معقّدة بين "الأنا" والإبداع، بين الذات والموضوع، وقد ألفنا تركها لعامل الزمن وكأنه الكفيل بحلها معلنين الاستقالة والانسحاب من سؤال الحاضر الملحّ في هذا الجانب. فقد اعتدنا انصاف الموتى والاحتراب مع الأحياء وتلك أخلاقية وليست نقدًا منهجيًا على الإطلاق.
وإننا إذ أطرح هذه الأمثلة، إنما نريد من وراء ذلك التأكيد على أن سؤال الدولة والثقافة لا يجب أن يُترك لهامش ضيّق وأن مهمتنا اليوم أن نركز على أسس وقيم العملية الإبداعية وشروطها التي تتجاوز السطح السياسي اليومي.
لقد حان الوقت الذي يفرض علينا الالتفات الى النص الإبداعي، والى عملية الخلق والبحث في أدواتها وارهاصاتها وأشكال تطورها، انطلاقًا منها ومن خطوطها الحمراء وأحكامها الخاصة بها، التي تجعل من النص المكتوب أدبًا وإبداعًا أو ترفضه ولا تعتد به، إذا لم يحقق الحد الأدنى من الشروط والاعتبارات الخاصة بعملية الخلق الفنية وعدم التساهل والتواطؤ لأي سبب آخر خارج الفن والإبداع. وإلا لكانت النهاية الحتمية لوجودنا الثقافي والانتصار الأخير للسياسة والدين على الفكر والأدب.
السؤال الملح والضروري حول الشاعر الثوري أو الرجعي أو المرتبط بتلك الدولة أو ذلك التيار الديني أو سواه، يجب أن ينسحب الى الشعر، أن يتجه نحو بوصلته ومكانه الحقيقي ليتحول الى سؤال يركّز على صفات النص وأحكامه وأهميته أولًا. والشعر الحق ثوري إنساني بطبيعته مهما كانت المظلة السياسية والدينية التي يعيشها - ربما اضطرارًا - الشاعر.
إننا إذا نجحنا في تركيز السؤال الإبداعي والفني وتفجير قيمه وتحدياته سنقوم بخطوتين في مسيرتنا الثقافية، الأولى توحيد الجبهة الثقافية الإبداعية داخل العملية الأدبية والفكرية خارج ظلال الدين والسياسة، والثانية سنكون قد أنجزنا الخطوة الأولى في مسيرة الفصل بين الثقافة والدولة.
ان معركة الألف الثالث ثقافية قبل كل شيء، ولهذا فإن السؤال الثقافي والإبداعي يجب أن يحتل الصدارة. إنها الجبهة التي صارت بالنسبة لنا، نحن المثقفين العرب اليوم، هي الجبهة الأولى.