إذا لم تكن للمدينة روح يُمكن لساكنها أو زائرها أن يقبض عليها، فيحسّ بأنّه قبض على نبض الحياة، فهي مجرّد تجمع إسمنتي يكون أقربَ إلى إنتاج الجريمة بكلّ تجلياته، منه إلى إنتاج فنّ الاجتماع بكلّ تجلّياته.
قرأت كثيرًا عن روح طنجة، التي أغرت كتّابًا معروفين وغير معروفين بالاستقرار فيها والكتابة عنها، لكنّني لم أكن أتوقّع أن تكون تلك الرّوح، بكلّ تلك الحرارة والتدفّق. فما أن دخلتها حتى غرقت في حبّ المكان والإنسان. إنّها من المدن التي لا تقبل أن تحبّها بالتّقسيط، بل تفرض عليك سطوة عشقها دفعةً واحدةً، عند أيّ من مداخلها، ومداخل طنجة كثيرة. بعضها متاح إدراكه للجميع، وبعضها حكر على خاصّة الرّوح. وللرّوح فيها أناشيدُ بكلّ اللّغات. لذلك ينتابك إحساس بأنّه يمكنك أن تستغني، بالإقامة فيها، عن زيارة بقيّة العالم فهي تقدّم نفسها على أنّها عصيره.
لنساء طنجة عيون خاصّة، تتطلب عينًا خاصّة حتى تُدرك أعماقُ بحارها
وقد عرفت بعض السرّ في هذا السرّ، حين وقفت عند مغارة هرقل، غرب المدينة، على الحدّ الفاصل بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، ثم نظرت شمالًا فرأيت إسبانيا، إذ يكفي أن يكون النّهار صافيًا حتى ترى جبل طارق، وأن يكون الليل كذلك حتى ترى أنوار أوروبا، وإن كان يصعب على أولاد طنجة العبور إلى الفردوس المفقود، فهم يستقبلون في مدينتهم كلّ جنسيات العالم، ويحتكّون معها بكلّ لغاته، وإن أمكنك أن ترصد الفرق الواضح بين الجيوب، فسيصعب عليك أن ترصد الفرق بين العقول.
اقرأ/ي أيضًا: قهوة مع عبد الله زريقة
لنساء طنجة عيون خاصّة، تتطلب عينًا خاصّة حتى تُدرك أعماقُ بحارها. كلّ بحار الدّنيا تسكن عيون الطنجاويات، ما عدا البحر الميّت. هل أنا أقول الحقيقة أم أمارس رومانسية تجاوزها الزّمن الحداثي؟ أقسم إنني لست أدري، حيث دخل بعضي في بعضي، ليغرق كلّي في الاندهاش.
حدّثني الرّوائي المغربي محمّد عزّ الدّين التّازي قال: "مرّ يومان على رحيل محمد شكري فقلت في نفسي سأزور قبره. كانت روحي عشيتَها منقبضةً حتى أنّها كانت مستعدة لأن تخرج بمجرد قبضة من يد. وكانت السّيارة تتوجّه إلى المقبرة، مثل فرس لا ترغب في الرّحلة، وكان المطر يغسل طنجة. مطر لا تتفوّق على حرارته إلا رغبتي في الوصول إلى القبر الحافي".
"رغم أنّني حضرت الجنازة إلا أنّني نسيت أين دفن محمّد بالضّبط، ذلك أن هناك مقبرتين متجاورتين، وكان لا بدّ أن أستعين بإدارة المقابر. فتح كهل سجلات الموتى وراح يفتّش فيها، لكنه لم يعثر على المطلوب. قلت في نفسي إنّني لن أعود حتى أجده. هل يعقل أن يُنسى محمّد ولم يمرّ على دفنه إلا يومان؟ الكهل الموكّل بالسّجلّات يؤكّد لي أنّه لو كان مدفونًا عندهم لما فاتهم أن يسجّلوه، طالبًا منّي البحث عنه في المقبرة الأخرى".
"محمد شكري لا يترك عاداته أبدًا، كنّا نبحث عنه أحيانًا فلا نعثر له على أثر، ثم يطلع علينا من حيث لا نحتسب، وهذا الذي كان مع قبره: أخيرًا عثرت عليه، وقد سقاه المطر، وورود نديّة تعلو رأسَه. من هذا الذي جلبها في هذا اليوم الممطر؟ لعلها بائعة الزّهور التي كتب عنها صديقه جان جينيه. وإذا بفتًى يظهر لي من الجهة الأخرى، سألته: هل أنت صاحب الورود؟ قال: نعم. قلت: هل تعرف صاحب القبر؟ قال: لا. قلت: وما الدّاعي إلى ذلك إذن؟ قال: إنّني مكلّف من القصر الملكي بأن أرعى القبر، وبأن أجلب له الوردات".
قلت لمحمد التّازي: لكنّ شكري كان متمرّدًا، ومصنّفًا خارج الأعراف التي ينتمي إليها القصر، فكيف تمّ هذا الاحتفاء؟ قال: لست أفهم السّبب، لكنّ الذي حصل أنّ القصر تكفّل بعلاجه في المستشفى العسكري، ثمّ تكفل بالجنازة، وبمأدبة العزاء التي كانت ملكية فعلًا. سألته عن قبر جان جينيه في طنجة، فقال لي إنّه مدفون في مدينة العرائش المطلة على المحيط الأطلسي، على بعد ثمانين كيلومترًا من طنجة. قلت: إنّ الشائع أنه مدفون في طنجة، لكن رغم هذا سأزوره.
إن كان يصعب على أولاد طنجة العبور إلى الفردوس المفقود، فهم يستقبلون في مدينتهم كلّ جنسيات العالم
ما إن ركبت الحافلة من طنجة إلى العرائش، يوم 23 أيّار/مايو 2012، حتى اقتحمتني رغبة جموح في الكتابة، ثمّ انتبهت إلى أنّني نسيت قلمي، البارحة، في "نادي بالما" حيث سهرت مع الرّوائي الليبي محمّد الأصفر، فلم أجد حلًّا غير التوجّه إلى الفتاة التي كانت جنبي. تعمّدتُ الوفاء للهجتي الجزائرية، فأعطتني سيّالة زرقاء بروح تلفّها كلّ الألوان، فسقط منّي القلم، وتسرّب بين الأرجل. ضغط الكتابة على ضغط الخجل من الفتاة، إنه تحالف ضغطين من أنثيين: الكتابة والفتاة.
اقرأ/ي أيضًا: بوزيد حرز الله.. يد عالقة في الصّلصال
لا بدّ أن تتصرّف قلتُ لي، ولم يكن تصرّفي غير أنّني فتحت حديثًا مع جارتي الملاك عن نصّي المجهض بضياع قلمها. هل هو قلمها أم قلمي في الحقيقة؟ ومن الخاسر الأكبر؟ هي حيث فقدتْ قلمًا، أم أنا حيث فقدتُ نصًّا؟ واكتشفت، بعد نهاية الرحلة، أنّني فقدت بحديثي العميق معها كلّ رغبةٍ في الكتابة. هل كانت ستوجد كتابة أدبية لو لم يكن هناك كبت في الحياة؟
كان الشّاعر إدريس علوش ينتظرني في المحطة. سألني إن كنت أفضل زيارة مكتبه في معهد الموسيقى أوّلًا أم قبر جينيه، فقلت له مازحًا: الأولويّة للأحياء الحقيقيين. فتوجّهنا إلى المقبرة المسيحية رأسًا. طرقنا بابها الرّئيسيَّ فلم يردّ علينا رادّ. انتابني خوف من ألا تتمّ الزّيارة، فشرعت في القفز عاليًا علّني أرى شيئًا خلف السّور. اقترح علي علّوش أن نلفّ من الجهة الأخرى علنا نعثر على الحارس وهذا الذي كان. فتحت لنا زوجته الخارجة من السّكن الوظيفي التابع للمقبرة، التي ترعاها مملكة إسبانيا.
كانت في استقبالنا سلحفاة معمّرة ودهشة وليدة. قبور أنيقة على بساطتها تعلوها الصّلبان، ما عدا قبرًا واحدًا على الطريقة الإسلامية. إنّه قبر صديقنا جان قال علوش. قلت مندهشًا: ولكن كيف؟ ردّ علوش: إنّه الإيمان الفعليّ بالاختلاف، حيث مسيحيّ يطلب أن يكون قبره إسلاميًا، في مقبرةٍ مسيحيةٍ ترعاها أسرة مسلمة على أرض المسلمين.
هل أدّعي أنّني قادر على أن أسخّر اللغة، لوصف تلك اللّحظات التي قضيتها في حضرة جينيه؟ فالمقام يعلّمك أنّ الخلود لأعداء الادّعاء، لذلك سأكتفي بالقول إنّني وجدتُني أسأله: عزيزي جان.. متى ستموت؟
اقرأ/ي أيضًا: