للسنة السابعة على التوالي تأتي الدنمارك ضمن الدول الثلاث الأكثر سعادة في العالم، وفقًا لتقرير السعادة العالمي، في حين أن دولة مثل الولايات المتحدة تأخرت هذا العام أربعة مراكز عن العام السابق. يطرح ذلك سؤالًا مُلحّا طبيعيًا، وهو: لماذا تتصدر الدنمارك تقرير السعادة العالمي كل مرة؟ ماري هيلويج لارسن، أستاذة علم النفس الدنماركية، بكلية ديكنسون الأمريكية، حاولت الإجابة على هذا السؤال، في مقال نُشر على موقع "The Conversation"، ننقله لكم مترجمًا بتصرف في السطور التالية.
صنف تقرير السعادة العالمي الجديد، مرةً أخرى الدنمارك، ضمن الدول الثلاث الأكثر سعادة في العالم من بين 155 دولة شملتها الدراسة، وهو اللقب الذي حصلت عليه الدنمارك لسبع سنوات متتالية.
في حين تحافظ الدنمارك على مركزها المتقدم في تقرير السعادة العالمي لـ7 سنوات متتالية، تراجعت الولايات المتحدة أربعة مراكز هذا العام
من ناحية أخرى، حلّت الولايات المتحدة الأمريكية في تقرير السعادة العالمي لهذا العام، في المرتبة الـ18، متأخرةً بذلك أربعة مراكز عن تقرير العام الماضي.
اقرأ/ي أيضًا: نصائح لحياةٍ أكثر سعادة
يتسق تصنيف الدنمارك بين أسعد دول العالم مع الكثير من الدراسات الوطنية الأخرى عن السعادة، أو كما يسميها علماء النفس: "الرفاهية الذاتية".
ويحب العلماء أن يبحثوا ويناقشوا كيفية قياس الأشياء. ولكن عندما يتعلق الأمر بالسعادة، يبرز إجماع عام حول الأمر. ووفقًا لنطاق البحث وهدفه، فغالبًا ما تُستخدم بعض المؤشرات الموضوعية في قياس السعادة -كبيانات الجرائم والدخل والمشاركة الاجتماعية والصحة- وأساليب موضوعية، مثل سؤال الناس عن مدى تكرار مرورهم بمشاعر إيجابية وسلبية.
لماذا يُقيّم الشعب الدنماركي حياته بشكل أكثر إيجابية؟
نعم، لدى الشعب الدنماركي حكومة مستقرة، ومعدلات منخفضة من الفساد العام، وتعليم مرتفع الجودة، ورعاية صحية جيدة. وعلى الرغم من أن البلاد لديها أعلى نظام ضرائب في العالم، إلا أن الغالبية العظمى من الشعب الدنماركي سعيد بدفع هذه الضرائب؛ فهم يعتقدون أن الضرائب المرتفعة تستطيع خلق مجتمع أفضل.
ولكن الأهم من ذلك كله، أن الدنماركيين يهتمون ببناءٍ ثقافي يسمى "هيغ - hygge"، وترجمتها الحرفية للعربية تشير إلى "راحة".
وقد أضاف قاموس أكسفورد هذه الكلمة في حزيران/يونيو من عام 2017. وتشير إلى التفاعلات الاجتماعية عالية الجودة. ويمكن استخدام كلمة "هيغ" كاسم، أو صفة أو فعل، كما يمكن استخدامها كحدث ومكان.
تترجم كلمة "هيغ" في بعض الأحيان بمعنى راحة كذلك. لكن المعنى الأفضل للكلمة هي "المودة المتعمدة أو المقصودة"، والتي يمكن أن تحدث عندما تخوض تجارب آمنةً ومتوازنة ومنسجمة. والتي قد تأتي من مجرد تناول فنجان قهوة برفقة صديق، أو من خلال رحلة صيفية في متنزه.
قد تمضي العائلة أمسية "هيغ" والتي قد تتضمن بعض الألعاب الجماعية، أو لدى الأصدقاء، بتجمعهم لتناول العشاء معًا في إضاءة خافتة وطعام جيد وبعض المرح. ويمكن أن توصف الأماكن أيضًا بالـ"هيغ"، ويقصد هنا الدفء، كأن يقول أحدهم: "إن بيتك الجديد هيغ/دافئ"، ويُقصد هنا الدفء المعنوي، وليس دفء الحرارة تحديدًا. كما تُستخدم الكلمة تعبيرًا عن شكر حسن الضيافة بعد تناول العشاء، وتعني في هذه الحالة: "لقد أمضينا وقتًا ممتعًا".
رغم أن مفهوم "هيغ - hygge" دنماركي أصيل، لكنه أصبح ظاهرة عالمية كما تكشف السوشيال ميديا التي تتضمن ملايين المنشورات عن "هيغ"
ومن المتوقع أن تندرج معظم الفعاليات الاجتماعية الدنماركية تحت عنوان "هيغ"، وبالتالي، سوف يكون وصف حفلة أو عشاء ما بأنه لم يكن "هيغ"، أي لم يكن جيد، من قبيل النقد اللاذع.
اقرأ/ي أيضًا: الفينج شوي.. فن جلب السعادة إلى المنزل
توصلت الدراسات التي أُجريت على فعاليات "هيغ" في الدنمارك، إلى أنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من شعور الناس بالسعادة. كما أنها بمثابة درع في مواجهة الإجهاد والتوتر، وهي تخلق أيضًا مساحةً لبناء الصداقة القوية. ففي بلد يتمتع بفردية شديدة مثل الدنمارك، يمكن لمفهوم "هيغ" أن يعزز المساواة والثقة المتبادلة.
سيكون من الإنصاف القول بأن مفهوم "هيغ" مندمج بشكل كامل في الثقافة والثقافة النفسية للشعب الدنماركي. لكنه أصبح ظاهرةً عالميةً أيضًا إلى حد ما، إذ يبيع موقع أمازون في الوقت الراهن قرابة 900 كتاب يتحدث عن "الهيغ"، ويحتوي تطبيق إنستغرام على أكثر من ثلاثة ملايين منشور يتضمن وسم (هاشتاغ) "#hygge". كما تُظهر بيانات نسبة المشاهدة لدى جوجل، قفزة كبيرة في البحث عن كلمة "هيغ" منذ تشرين الأول/أكتوبر لعام 2016.
وليست الدنمارك الدولة الوحيدة التي لديها كلمة تحمل مفهوم مشابه لكلمة "هيغ"، فلدى النرويجيين كلمة "koselig"، ولدى السويديين كلمة "mysig"، ولدى الهولنديين كلمة "gezenlligheid"، ولدى الألمان كلمة "gemütlichkeit".
لكن في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعطي أهمية كبيرة للفردية، ليست هناك ثقافة حقيقية مشابهة لثقافة "هيغ". فعادةً ما ترتبط السعادة في المفهوم الجمعي هناك بالدخل المادي. ومع ذلك، ورغم أن الناتج القومي الإجمالي للبلاد آخذ في الارتفاع، ومعدلات البطالة آخذة في الانخفاض، إلا أن معدلات السعادة في الولايات المتحدة آخذة في الانخفاض بشكل منتظم.
ما الذي يحدث إذن؟
يمثل استمرار عدم المساواة في الدخل مشكلة كبيرة. ولكن هناك أيضًا انخفاض ملحوظ في الثقة بين الأشخاص، وكذلك الثقة في المؤسسات، مثل الحكومة والإعلام.
في نهاية المطاف، لا يُعد الحصول على دخل كبير بديلًا عن وجود شخص ما يمكن الاعتماد عليه في وقت الحاج، وهو شيء يعتقد 95% من الشعب الدنماركي أنهم يمتلكونه.
في أمريكا تُربط السعادة بالمال. ورغم أن الناتج القومي آخذ في الارتفاع، إلا أن معدلات السعادة آخذة في الانخفاض هناك بشكل منتظم!
يُمكن القول إن مفهوم "هيغ" يتضمن في جوهره بناء المودة والثقة تجاه الآخرين. وربما يجب على الآخرين استخدام مفاهيم مماثلة في حياتهم.
اقرأ/ي أيضًا:
الوجه الحقيقي لبلاد وزارة السعادة.. تمييز عنصري رسمي وممنهج تفرضه أبوظبي