كتب الطبيب والكاتب الأمريكي بي جي ميلر في نيويورك تايمز هذا المقال، الذي يعيد طرح سؤال الموت من جديد، على ضوء ما فعلته بنا الجائحة. هنا الترجمة العربية.
استيقظنا في السنوات الثلاثة الأخيرة على الحقيقة التي مفادها أننا نموت، ومع إدراكنا أن ذلك كان صحيحًا دومًا بالمعنى التقني، إلا أن الوباء جعلنا نستوعب ذلك بشكل أكبر، ولا بد من الاعتراف هنا، بأن موت الآخرين أمر وتقبّل موتنا أمر آخر تمامًا، إنها ليست مسألة مرهقة عاطفيًا فحسب، بل ويصعب تصوّرها. وأن تفعل ذلك فهذا يعني أن تتخيلها، وتحسب لها ألف حساب، والأهم من ذلك أن تشخصنها: حياتك أنت وموتك أنت.
لم يعد الموت أمرًا بديهيًا كما كان ما دام بإمكان الطب الحديث قلب مسار الطبيعة لفترة من الزمن على الأقل
نتابع أعداد الوفيات اليومية وحالات الاستشفاء من كوفيد - 19 وكأننا نشاهد شريط الأسهم أو تقرير الطقس على شاشات التلفزيون، لقد تجاوز العدد المليونين في جميع أنحاء العالم، مع ما يخلفه ذلك من آثار شديدة ناجمة عن الصدمة أو الذهول، ومع ذلك وبدلًا من الهروب نحتاج إلى دمج الموت في حياتنا، فنحن عمليًا لا نملك سوى خيارين: إما أن نتشارك الحياة مع الموت أو أن يسرقنا الموت.
اقرأ/ي أيضًا: آخر النعاة: عندما كان الموت وقورًا
جُبلنا ـ نحن الحيوانات- على أن نقاتل أو نهرب أو نتسمّر في أماكننا إزاء كل ما يهدّد وجودنا، ذلك أننا لم نتطوّر بعد - أخلاقيًا أو اجتماعيًا - للتعامل مع نظام رعاية صحي يتمتَّع بقوة تكنولوجية تضاهي قوة الإله، فعلى الرغم من أن الموت لم يعد أمرًا بديهيًا كما كان من قبل، ولا تلك القوة القاهرة التي يتساوى أمامها الجميع- ما دام بإمكان الطب الحديث قلب مسار الطبيعة لفترة من الزمن على الأقل شرط أن يحصل المريض على الرعاية الطبيّة اللازمة- إلا أنه في نهاية المطاف لازال يحدث، سواء بسبب هذا الفيروس أو غيره، وسواء كنت شابًا أم عجوزًا، غنيًا أم فقيرًا..
ما الموت؟ فكرت كثيرًا في هذا السؤال، وقضيت سنوات طويلة في ممارسة الطب لأدرك الحاجة إلى طرحه، فقد كنت أعتقد كغيري أن الموت حقيقة بسيطة، حدث فريد وبغيض، لكنه أكثر وضوحًا من أي أمر آخر في حدوده لأنني عمليًّا أستطيع تحديد مفهوم النهاية، بغض النظر عن عدد المرات التي شهدتها بنفسي، أو الكلمات التي عبّرت بها عنها.
وإذا جردنا ثقافتنا من الشعر والتنميقات التي نستخدمها لمحاولة فهم الموت – أي تلك القدسية والأسلوب الذين نضفيهما على الرحلة المقدسة لحياة تبدأ وتتطوّر وتنهار – فإننا لن نرى في الموت سوى قشرة لجسد بلا نبض ولا موجات دماغية، بلا إلهام ولا تفسير.. يُعرف الموت بما يسلبه منا.
وفقًا لقانون تحديد الوفاة الموحَّد لعام 1981 (التشريع النموذجي الذي أقرته كل من الجمعية الطبية ونقابة المحامين الأمريكيتين، والذي يهدف إلى توجيه قوانين الدولة بشأن مسألة الوفاة) تُعتبر متوفيًا إذا كان لديك توقف دائم لوظائف الدورة الدموية والجهاز التنفسي، "أو" توقف نهائي لوظائف الدماغ بشكل كامل، بما في ذلك جذع الدماغ - بعبارة أخرى لا دقات قلب ولا تنفس- وهو أمر واضح بما فيه الكفاية.. أي لا توجد وظيفة للدماغ مما يتطلب مخطط رسم كهربائي له.
يصبح من الصعب تحديد ما إذا كان الموت موجودًا من الأساس، ذلك أن جسدك يتقلب منذ لحظة ولادتك، تموت خلايا وتنمو أخرى يوميًا وبشكل مستمر
هذه هي الكلمات التي نستخدمها لوصف أحد أعمق الأحداث في التجربة الإنسانية، والتي تبنتها معظم الدول بصفتها تعريفًا قانونيًا للموت، والتي قد لا تكون ملهمة، وهي بالتأكيد غير مكتملة ما دمت في كل الأحوال تحتاج طبيبًا أو ممرضًا يعلن وفاتك حتى يكون الأمر رسميًا، وإلى أن يحدث ذلك فأنت لا زلت على قيد الحياة قانونيًا.
اقرأ/ي أيضًا: الحانوتي.. تاجر الموت
وإذا واصلنا التركيز على الجسد- وهو الشيء الملموس فيما يتعلق بنا- سيصبح من الصعب تحديد ما إذا كان الموت موجودًا من الأساس، ذلك أن جسدك يتقلب منذ لحظة ولادتك، تموت خلايا وتنمو أخرى يوميًا وبشكل مستمر، تبلغ فترة حياة خلايا الدم الحمراء على سبيل المثال حوالي 115 يومًا، وهذا يعني أن حياتك في أفضل حالاتك الصحية هي عملية موت، وما يربطهما معا –أي حياتك وموتك-هو توتر حيوي إلى أن يتم خرق الهدنة يومًا ما.
ورغم ذلك فإن موتك ليس نهاية جسدك، إذ تستمر الروابط الكيميائية التي جمعتك بجسدك على المستوى الجزيئي في الانهيار في الدقائق والأشهر التي تلي وفاتك، تتأكسد الأنسجة وتتحلَّل مثل موز ينضج، كما أن الطاقة التي كانت تحرك جسمك سابقًا لن تتوقَّف بل ستتحوّل: التحلُّل من جهة والنمو من جهة أخرى، وهكذا ودون قيود تستمر عملية التحلل حتى يصبح كل ما كان جسمك يومًا ما شيئًا آخر يعيش في الآخرين- في العشب والأشجار التي تنمو في المكان الذي ترقد فيه إلى الأبد، وفي المخلوقات التي تقتات هناك- أي أن جيناتك الخاصة ستعيش على شكل حزم من الأشياء الصغيرة إلى أجل غير مسمى إلى أن تجد شخصًا جديدًا يستضيفها.. حتى بعد الدفن أو الحرق، تظل ذراتك سليمة ومتناثرة لتصبح أشياء أخرى، تمامًا كما كانت موجودة سابقًا وأصبحت أنت.
غير أنه ومن أجل الكشف عن ألغاز ما بعد الحياة، أو عن القوى التي أطلقت هذا السيرك العجيب، قد نتطلع إلى الدين في المقام الأول لأن ما تم وصفه أعلاه هو علم يمكن ملاحظته بوضوح لكنه لا يقدم إجابات حاسمة، لن يخبرنا لماذا أو ما وراء قوانين الجسد الذي يحتوي على أكثر مما يمكننا التعبير عنه، فأنت أكبر من جسدك.. أن تصبح عشبًا أمر جميل لكنه لا يعوّض كل ما يحمله الموت من وجع للقلب..
نحن نحزن بالطبع ونخاف من فقدان أنفسنا وفقدان الأشخاص الذين نحبهم، ولكن كثير منا تجاوز الخوف من الموت -ذلك المجهول العظيم- بمخاوفنا حول عملية الموت نفسها!
نحزن ونخاف من فقدان أنفسنا وفقدان الأشخاص الذين نحبهم، ولكن كثير منا تجاوز الخوف من الموت بمخاوفنا حول عملية الموت نفسها!
ففي أيامنا هذه، يبدو الموت وكأنه تهويدة نوم مقارنة بعملية الموت، بالنظر إلى القصص اليومية المرعبة التي تصلنا حول أجهزة التنفس الصناعيّة، وعن أشخاص محرومين يموتون لوحدهم بسبب العزل، بل ويخبرنا العلماء أن نتخيّل الاسوأ، وعليه فإن خياراتنا ستكون إما أن نتصوّر هذا الجحيم- أي أن أكون أنا أو والدتي من نعاني من صعوبة التنفس أو نموت وحيدين- أو أن ننأى بأنفسنا عن الأشخاص الذين يعيشون تلك القصص، ليس فقط جسديًا بل بكل الطرق، بتعبير آخر أن نعتزل إخواننا البشر، لكننا بهذه الطريقة سنجعل الأشياء الصعبة أكثر صعوبة، فأنت شخص لديه وعي وعواطف وروابط مع الآخرين.. أنت تعيش في أولئك الذين تلمسهم، في قلوبهم وعقولهم، وأنت تؤثر على الناس، فقط تذكر أن أولئك الذين ماتوا قبلك يعيشون بداخلك.. هذا هو الخلود الخاص بك !
اقرأ/ي أيضًا: العزاء بين قهر الموت وتحمل مرارته
ثم هناك وعي/روح-إذا شئت – ومن يدري؟ قد يكون لديك إجابتك الخاصة على سؤال الموت، لكنك حتمًا لن تلجأ إلى التجريبيّة لتفسيرها، فمهما كان هذا اللغز، فإنه يطمس كل الخطوط التي يبدو أنها تفصل الموت عن الحياة للوهلة الأولى.
الوباء كارثة شخصية وعالمية، لكنه في الوقت نفسه فرصة للنظر إلى الصورة الكبرى للحياة. في وقت سابق من هذا الأسبوع كان لدي مريضة تستند إلى كاميرا جهاز الكمبيوتر الخاص بها وتهمس لي أنها تقدّر ما يفعله الوباء من أجلها: لقد كانت تعيش في المراحل الأخيرة من السرطان، والآن فقط أصبح أصدقاؤها أكثر قدرة على التواصل معها ومشاركتها تقلُّباتها، وهذا التعاطف نفسه بلسم لها.. لقد سمعت كثيرين يقولون بنبرة هادئة أن ما نمر به نتيجة الوباء يهزهم بوضوح، ورغم أن ذلك يبدو محزنًا أو غير محبب، إلا أنه صادق وحقيقي، وهذا في حد ذاته علامة قويَّة على الحياة!
إذًا مرة أخرى ما الموت؟ قد يكون الحديث عن الموت أفضل ما يمكننا فعله، وحبذا لو قمنا بذلك بصوت عال، فالحقائق وحدها لن تصل بنا إلى الإجابة، وسيبقى دوما سؤال آخر أكبر وأكثر أهميّة عالقًا: ما الموت بالنسبة إليك؟ متى تعلم أنك انتهيت؟ لماذا تعيش في هذه اللحظات؟
بالنسبة للبعض منا، نحن نبلغ الموت عندما يهلك جميع أحبائنا، أو عندما لا نستطيع التفكير بشكل سوي أو الذهاب إلى الحمام بأنفسنا، أو ممارسة نوع معيّن من الجنس.. الموت هو عندما لا نتمكَّن من قراءة كتاب أو أكل البيتزا.. عندما لا يستطيع جسدنا العيش بدون مساعدة الأجهزة، أو عندما لا يتبقى شيء على الإطلاق لتجربته. وربما كانت الإجابة الأفضل التي صادفتها هي لذلك الأستاذ اللامع الذي أوعز لابنته أن الموت هو ما حدث عندما لم يعد قادرًا على المشاركة في لعبة الجوارب الحمراء (Red Sox game).
الوباء كارثة شخصية وعالمية، لكنه في الوقت نفسه فرصة للنظر إلى الصورة الكبرى للحياة
أمّا أنا إذا اضطررت للإجابة عن هذا السؤال اليوم فسأقول إن الموت بالنسبة لي هو عندما لا أستطيع التعامل مع العالم من حولي. عندما لا يعود بإمكاني الاتصال مع الآخرين بفعل التباعد الاجتماعي الذي يدفعني أحيانًا إلى التساؤل عما إذا كنت موجودًا بالفعل، فقط لأني أفتقد إلى ملامسة الأشخاص الذين أهتم بهم. وعزائي اليوم أنه لا تزال هناك طرق للتواصل مع الآخرين، بما في ذلك الألم الجميل الناتج عن فقدانهم، كما أنه لازال بإمكاني لمس الكوكب طوال اليوم.
اقرأ/ي أيضًا: متحف الموت
هذا سؤال مفيد يجب مراعاته عندما توازن خياراتك في الحالات الطبيّة المعقدة، في الوقت الذي يتعين فيه عليك اختيار ما إذا كنت تريد استخدام طاقتك -المحدودة أصلا- لتستمر حياة المريض أو تتوقف! قد تكون إجاباتنا مختلفة، لكنها قابلة للتنفيذ دومًا، إنها نهايات يمكننا نحن ودوائرنا الداخلية وأطبائنا اتخاذ قرارات حاسمة بشأنها.
كما أن هذا السؤال هو بشكل ما طريقة لإلقاء الضوء على طبيعة شخصيتك، إنها تعبير عن الذات، الذات التي ستموت يومًا ما، فما الذي ستحمله معك يا عزيزي؟ من أنت أو من تتمنى أن تكون؟ وبهذا الشكل يمكن أن تدرك كيف أنه يتم تأطير الموت بشكل أفضل من خلال ما تهتم به أكثر من التفكير في عدم وجود نبض أو موجة دماغيّة!
وبعيدًا عن الخوف والعزل، قد يكون ما يحمله الوباء بالنسبة لنا هو استيعاب فكرة أن العيش في مواجهة الموت يمكن أن يفجر لدينا سلسلة من الإدراك والتقدير، فالموت هو القوة التي تبيّن لك ما تحب، وتحثك على الاستمتاع بهذا الحب بينما تدق عقارب الساعة. إن الاستمتاع بالحب هو أحد الطرق المؤكدة التي ترى نفسك من خلالها ومن ورائها العالم الأوسع حيث الخلود، إنه نظام رائع للغاية حقًا، يُظهر لك من أنت (محدود) والكل الذي أنت جزء منه (واسع)، الحب بصفته قوة اتصال، يجعل الشخص أكثر قدرة على مقاومة الفناء..
الموت هو القوة التي تبيّن لك ما تحب، وتحثك على الاستمتاع بهذا الحب بينما تدق عقارب الساعة
قد تضطر إلى تقليل حاجتك لمعرفة ما ينتظرنا في المستقبل بدلًا من إهدار جزء كبير من طاقتك في محاولة تقليل الألم.. وقد ترغب في إيقاف أحكامك وترك جسدك يفعل ما يشاء.. فإذا جمعنا الماضي والحاضر والمستقبل معًا، فإن الموت سيعدو عملية صيرورة..
اقرأ/ي أيضًا: مقاومة الموت
إذًا مرة أخرى ما الموت؟ إذا كنت تقرأ هذا المقال، فإنه لا يزال لديك الوقت للاستجابة، وفي ظل عدم وجود إجابة صحيحة معروفة يمكنك أن تجعل حياتك نفسها إجابة على هذا السؤال.
اقرأ/ي أيضًا: