برزت الديمقراطية الاجتماعية داخل أوروبا في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية، بصفتها بديلًا عن الشيوعية السوفييتية، والتخطيط المركزي للاقتصاد من جانب، وعن الرأسمالية الأمريكية الفردية، والمُتحررة من الضمان الاجتماعي من جانب آخر، أي بصفتها وسط غرب أوروبي معتدل، يقع بين الكتلتين السوفييتية والأمريكية.
برزت الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، بصفتها وسط غرب أوروبي معتدل يقع بين الكتلتين السوفييتية والأمريكية
عملت الديمقراطية الاجتماعية على تحقيق ما يسمى بنموذج "دولة الرفاه" ذات الاقتصاد المختلط، والتي تعمل على توفير وظائف مستقرة، وتكافؤ في فرص التعليم والعمل، مع وضع قيود على أرباب العمل تمنع بدرجة كبيرة خسارة العمال والموظفين لأماكنهم.
اقرأ/ي أيضًا: الثالوث الاسكندنافي.. سؤال الديمقراطية والاشتراكية المحير!
بالإضافة إلى فرض نظام للضرائب يُحجّم التفاوتات الطبقية الكبيرة، وتوفير منظومة ضمان اجتماعي تديرها الحكومة والبلديات من أموال الضرائب، بحيث تؤمّن المواطنين ضد البطالة، وتُوفر لهم الرعاية الصحية والتعليم حسب الحاجة، مستفيدة من النمو المُطرد لاقتصادات غرب أوروبا الصناعية في فترة ما بعد الحرب، ومشاريع إعادة البناء، بالإضافة إلى نفوذ الأحزاب الاشتراكية والشيوعية المتصاعد، والذي دفع الإصلاحات الاجتماعية الحكومية، بهدف مواجهة الدعاية السياسية الراديكالية، وتجنبًا لتولي اليسار الشيوعي السلطة.
بدأت الديمقراطية الاجتماعية في التراجع منذ بداية الثمانينات، مع تراجع اليسار الأوروبي والتخبط الاقتصادي للاتحاد السوفييتي وتولي السلطة سياسيين -أبرزهم مارغريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في أمريكا- يؤيدون النموذج النيوليبرالي الداعي لتحرير السوق من التدخل الحكومي بغرض تعزيز النمو، والاعتماد على القطاع الخاص في البنية التحتية والخدمات العامة، في مقابل تقليص القطاع العام للحد الأدنى، وتحجيم نفوذ النقابات العمالية، وتفكيك برامج الضمان الاجتماعي، والرعاية الصحية المدعومة من الحكومة.
في كتابه "ما بعد الديمقراطية الاجتماعية"، يناقش الفيلسوف البريطاني وأستاذ الفكر الأوروبي بكلية لندن للاقتصاد جون غراي، عواقب تراجع الديمقراطية الاجتماعية على مستوى التطبيق العملي، في مقابل صعود الخطاب الديمقراطي الاجتماعي الكلاسيكي في الأوساط البريطانية والأوروبية المُحبطة من السياسات النيوليبرالية.
يميل غراي إلى أفكار الليبرالية الجماعاتية، والتي تتميز عن الليبرالية الفردية التقليدية، بأنها تولي اهتمامًا أكبر بالشروط الاجتماعية التي تساهم في تشكيل قِيم الفرد، فترفض فكرة الذات الفردية المُجردة من كل روابطها وانتماءاتها الاجتماعية، والتي يمكنها تشكيل نفسها أخلاقيًا وماديًا وشعوريًا بمعزل تام عنها.
كما ترفض الليبرالية الجماعاتية النظرة النيوليبرالية، والتحررية (الليبرتارية)، التي مفادها أن الخيار الفردي يجب أن يكون دائمًا أهم من كل حاجة إنسانية أو اجتماعية أخرى.
لا يمكن من وجهة نظر جماعاتية، اعتبار الفرد مجرد مُستهلِك أو مُنتِج مُستقل عن كافة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويسعى لمصلحته الخاصة فقط، كما ترى النيوليبرالية، دون أي تقدير لمصالحه المشتركة مع أفراد المجتمع الذي ينتمي إليه.
ترى الجماعاتية أن الأفراد الذين يتم دمجهم في المجتمع، كمواطنين لديهم حرية الاختيار، وبينهم مصالح مشتركة، بإمكانهم التفكير والتصرف بطريقة أكثر مسؤولية من الأفراد المعزولين بعيدًا عن المصلحة المشتركة للمجتمع، والعدائيين تجاه تحقيق مصالح الآخرين باعتبارها تعديًا على مصالحهم الخاصة، فالأفراد لن يتمتعوا بأية حقوق إن لم يكن هناك مجتمع، وذلك لأن وجود الأخير هو ما يمنح لفظ الحقوق معناه، وبالتالي على الفرد الذي يمنحه المجتمع حقوقه، أن يساهم بالعمل لضمان مصلحة المجتمع المشتركة.
الادعاء الرئيسي إذًا لليبرالية الجماعاتية هو أن، وفقًا لكتاب غراي: "ازدهار الأفراد، يفترض مسبقًا وجود أشكال قوية وعميقة من الحياة المشتركة"، والتي تضمن فرصًا معقولة مُتاحة أمام المجموعات المختلفة لتعزيز مصالحها، وتعزيز استقلالية أفرادها، مع الاعتراف بعدم إمكانية العزل التام للأفراد عن جذورهم الثقافية العائدة إليها.
يتحقق ثراء المجتمع بواسطة تبادل مسؤول للمصالح بين المجموعات المختلفة، يحكمه ميزان علاقات القوى في المجال السياسي، فالصراع الاقتصادي ليس نظريًا، أو قانونيًا يُدار في قاعات المحاكم، بقدر ما هو صراع سياسي، يخوضه أفراد، تحُركهم بالضرورة اعتبارات وأحكام أخلاقية وقِيميّة نابعة من تصورات وقيم المجموعات التي ينتمون إليها، وليس المصلحة الفردية البحتة كما تعتقد الفلسفة الليبرالة التقليدية، أو فلسفة العقد الاجتماعي، لدى توماس هوبز بالأخص.
وهم أيضًا مُطالبون إذا ما أرادوا تحقيق مصلحتهم الاقتصادية، باكتساب ثقل في ميزان القوى السياسية، وذلك لأن "السوق" في رأي غراي ليس مؤسسة قائمة بذاتها، بل هو مجرد تجريد من مجموعة متنوعة هائلة من الممارسات والمؤسسات التي لها جذور عميقة في الحياة الاجتماعية، وبالتالي القيمية والأخلاقية للأفراد، والتي تحدد انتماءاتهم أُطرها العامة.
مطرقة تاتشر الحديدية
أزاح نظام تاتشر، هرمية وتباينات المجتمع الطبقية القديمة، لكن في الوقت الذي كان يحطم فيه قوة الطبقة العاملة، كان أيضًا يُقوّض الأمان الاجتماعي لدى مؤيديه الساعين للترقي الطبقي، فأحوال الطبقة المتوسطة التي تطلع مؤيدو تاتشر من الطبقات الدنيا لتحقيقها؛ صارت أمام تحديات أصعب.
حوّلت التاتشرية الهيكل الاجتماعي بطريقة لا يمكن عكسها بالعودة إلى دولة رفاه ما بعد الحرب، وإنما يمكن فقط تجاوزها إلى شيء آخر جديد.
تأسست الديمقراطية الاجتماعية بالأساس، بناءً على خصائص ما بعد الحرب، كبديل عن الشيوعية السوفييتية والرأسمالية الأمريكية، وقد أدى فتح الحدود أمام حركة رأس المال، ووفرة العمالة الناتجة عن انهيار الاتحاد السوفييتي، وانفتاح الصين الاقتصادي على الغرب، إلى تغيرات جذرية، تجعل من الديمقراطية الاجتماعية مفهومًا مثاليًا يفتقد شروط تحققه العملية، فقد تآكلت القاعدة الاجتماعية لأحزابها نتيجة التغيرات الاقتصادية منذ حقبة تاتشر، كما تداعت وسيلتها السياسية المتمثلة في حكومة قوية تحت ضغط المؤسسات الاقتصادية الكبرى المُعولمة، والاندفاع الجارف لرأس المال عبر الحدود.
اختفت إذًا الظروف الموضوعية لدولة الرفاه الكلاسيكية، فقد قضت حرية انتقال رأس المال وارتباط الأحزاب والسياسيين بتمويل المؤسسات المالية الكبرى، على سيادة الحكومات المحلية؛ بحيث لم يعد بإمكانها التحكم في معدلات الفائدة والتداول، ولا الإبقاء على معدلات توظيف مرتفعة، مع تدفق العمالة الماهرة من الاتحاد السوفييتي السابق، وانتقال الشركات الكبرى إلى أسواق العمالة الرخيصة مثل الصين، حيث تزامن ذلك مع انفتاح الأخيرة الاقتصادي الواسع على العالم الغربي منذ نهاية السبعينات، واستقبالها تدفقًا غير مسبوق لرؤوس الأموال.
كما فشل منافس الديمقراطية الاجتماعية، النيوليبرالية، في تحدى الفقر، والذي أدى تمسكه بأقصى تحرير للسوق من القيود الحكومية، إلى تراجع في الخدمات العامة، وبالتالي في مستوى المعيشة، كما أدت سياساته المتصالحة مع نسب البطالة طويلة الأمد، إلى انخفاض في الإنفاق العام، فشلت خطط التقشف المتكررة في علاج آثاره السلبية.
عوالم متداعية
يرفض غراي الادعاء النيوليبرالي بأن "الأسواق تعزز بالضرورة الاختيار الفردي والاستقلال الذاتي"، مؤكدًا على أن القيمة الليبرالية للاستقلال الذاتي للإنسان "لا يمكن حمايتها إلا في ثقافة عامة يكون التداول المالي فيها تابعًا للمجتمع"، وحيث تتطلب العدالة "توزيع البضائع والمسؤوليات وفقًا لمضامينها الاجتماعية المشتركة في سياقات معينة، وبالتالي تستبعد قوى السوق من تلك المجالات (والتي قد تشمل توفير الرعاية الصحية على سبيل المثال) حيث تنتهك مثل هذه المفاهيم المشتركة".
فليست إذًا قوى السوق مُحبذة في المجالات التي قد تُؤثر فيها على مستوى الخدمات العامة، حيث تميل لمنع المزيد من الناس من الاستفادة من تلك الخدمات أيًا كانت، والتي تُعتبر بمثابة شروط أولية لأي إزدهار فردي.
في تلك الحالة يَبطُل ادعاء السوق بأنه أساس الحرية المدنية والفردانية، وذلك حين يُعيق تطور الأفراد واختيارهم الحر، بواسطة دوافعه الخاصة المحكومة بالربح، في شأن يتعلق بالمصلحة العامة.
لكن ذلك لا يعني تطلع غراي إلى دولة رفاه جديدة، فهو ينكر إمكانية العودة إلى الديمقراطية الاجتماعية في الظروف الحالية، كما ينكر بنفس القدر، صلاحية التصورات الليبرالية واليسارية المُسبقة عن ماهية الحق والمساواة.
فهذه المفاهيم والتصورات، وفقًا له، لا يمكن أن تُولد داخل المجال النظري المُجرَد، وإنما هي وليدة الواقع السياسي، حيث تعتمد على "تسويات مؤقتة" بين المجموعات الاجتماعية المختلفة، ويتم التوصل إليها عبر الصراع داخل المجال السياسي، وليس النظري أو القانوني، أي استنادًا لمفاوضات اجتماعية متكررة، تحدد نتائجها اختيارات سياسية، تتبع الأحكام الأخلاقية لأعضاء تلك المجموعات، في سياق ثقافي معين، وفي لحظة تاريخية مُعينة.
فعلى العكس من الليبراليين التقليدين الذين يعتقدون بأن التعاقدات الاجتماعية هي نتاج توافقات عقلانية سلمية، يرى غراي بأنها نتاج تواقفات قائمة على علاقات القوى والتنافس داخل المجال السياسي، كما أنه على العكس من مروجي مصطلح "موت السياسة"، يعتقد غراي بأن وضع وسياسات التعليم والعائلة المتنازع عليها، هي مثال على أن السياسة لم تمت بعد، وبأن ذلك النوع من الصراعات لا يمكن حسمه بواسطة المرجعية القانونية الليبرالية المُحايدة التي تعتمد نظريات في الحق مُحايدة تجاه المجال السياسي.
إذا كانت وفاة الديمقراطية الاجتماعية مؤكدة، فلن تكون الليبرالية الجديدة الوريث المناسب. كما أنه لا وريث لها يمكن اعتباره أخلاقيًا أو مستدامًا، ما لم يتضمن بديلًا معقولًا لسياسة التوظيف الدائم، ومالم يتجنب استنساخ برامج الضمان الاجتماعي التي وجدت ضالتها في ظروف ما بعد الحرب.
والسبب هو أن تلك الظروف قد تغيرت جذريًا الآن، فالضرائب المرتفعة ستسبب في نزوح أكبر للاستثمارات تجاه الدول ذات القيود المالية والقانونية الأخف، والتي يسهل فيها التربح غير المشروع باستغلال الفساد المستشري، مثل دول العالم الثالث، وروسيا، وحيث العمالة الأرخص كذلك مثل الصين، و حيث لا تُوجد حركة نقابية تطالب بأوضاع أفضل للعمال (ساعات عمل معتدلة، وزيادة في الأجور)، والنتيجة النهائية هي تصاعد البطالة.
نبوءة حول اتحاد أوروبا
ينكر غراي وجود مواجهة حالية بين نظامي السوق والتخطيط المركزي، ويقول بعصر "ما بعد اشتراكي"، حيث يُوجد فقط عدد من الصياغات الرأسمالية المتنافسة فيما بينها، والتي على الليبراليين الجماعاتيين دعم أكثرها فائدة للمصلحة العامة، في مقابل الديمقراطية الاجتماعية التي توحي بقدرتها على حسم صراع المصالح المتضاربة بين الطبقات والأحزاب السياسية، وذلك بواسطة ما يدعوه غراي "الوهم الدستوري"، وهي فكرة أن "المؤسسات القانونية يمكنها بضربة حاسمة إلغاء ضرورة إعادة التفاوض السياسي المُتكرر لتحقيق التوازن بين المصالح المتنافسة".
لقد تنبأ غراي بأن المصالح المتضاربة للحكومات الوطنية ستكون الصخرة التي سيتحطم عليها مشروع اتحاد أوروبي فيدرالي، بحيث سيصبح مستقبل القارة قائمًا على موازين القوة الكلاسيكية بين الدول أصحاب تلك المصالح. يمكننا النظر إلى علاقة ألمانيا باليونان الحالية على سبيل المثال.
اقتنع غراي من وجهة نظر جماعاتية، بأن نظام العملة المُوحدة سيتسبب في معدلات بطالة مُرتفعة، وأن الطريقة الوحيدة لنجاحه، تتمثل في سوق مفتوح أمام حرية انتقال كبيرة للعمالة، الشيء الذي سيرفضه المواطنون الأوروبيون أنفسهم، خوفًا من آثاره الاجتماعية والثقافية على المجتمعات المحلية.
في عام 2016 صوتت أكثرية البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. واليوم تتصاعد بشكل عام مشاعر السخط الشعبي تجاه الاتحاد الأوروبي في أنحاء القارة، ما يمنح اليمين المتطرف صعودًا جماهيريًا وسياسيًا لم يُحققه منذ ثلاثينات القرن الماضي.
يقول غراي إنه لا يمكن حسم الصراع حول مضموع العدالة في مجتمع ما إلا بالخيارات الجماعية التي يكون مجالها المناسب هو الممارسة السياسية
يُعد ذلك دليلًا على أن مشاريع التوحيد الاقتصادي، سواء الديمقراطية الاجتماعية أوالنيوليبرالية، أهملت تنوع الثقافات، والطبيعة المؤسسية المختلفة للدول الأوروبية، فهي تفترض أوروبا منسجمة ومتناغمة، ذات مصالح قومية وشعبية مُوحدة عابرة للحدود، بينما تنكر تضارب تلك المصالح، وتبعيتها لموازين القوى المتصارعة داخل المجال السياسي.
لذا يُوجّه غراي دعوة إلى إنعاش السياسة، حيث لا يمكن حسم الصراع حول مضمون العدالة في مجتمع ما، أو التفاوض بشأنها "إلا من خلال الخيارات الجماعية التي يكون مجالها المناسب هو الممارسة السياسية".
اقرأ/ي أيضًا: