تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام بما يسمى "عيد المرأة"، فتنطلق المباركات الافتراضية لكل النساء، ثم تنطلق شكاوى النساء أنفسهن من غياب العدالة والمساواة، ثم تردف ذلك احتجاجات ذكورية، ثم مصالحات افتراضية.
وفقًا للمنظور البريطاني فقد اعتبر الطقس الهندوسي جريمة نكراء، وألغي بقرار حكومي
ورغم كل ما يوحي في عالمنا العربي بأن المرأة قد نالت حقوقها، إلا أن الذاكرة لا زالت تحتفظ بترسبات الماضي وعاداته، بدءًا من عادة "الوأد" وانتهاء بعيد الحب. ولكن هل يمكن النظر لمسألة الاضطهاد الذكوري للمرأة من جانب واحد دائمًا؟ وهل سيعتبر الأمر جريمة تبريرية لو نوقش من زوايا مختلفة؟ يحيلني ذلك إلى هذا عنوان "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟".
اقرأ/ي أيضًا: موت في ذمة الرجل
هذا ليس تساؤلًا أطرحه الآن بنفسي، بل هو عنوان مثير لمقالة شهيرة جدًا. لقد كتبت المقالة حينها غياتري سبيفاك والتي تعتبر أحد الأقانيم الثلاثة الأشهر للدراسات مابعد الكولونيالية، إلى جانب المفكرين الأمريكي-الفلسطيني إدوارد سعيد والهندي هومي بابا.
في مقالها البارز نبهت الكاتبة إلى وضع النساء الهنديات، وخاصة نساء "الـستي"، اللاتي نظر لهن من خلال وجهتي نظر مختلفتين، الأولى: من خلال منظور المستعمر البريطاني الكولونيالي الذي رأى أن النساء ضحايا. والثانية: من خلال المنظور الهندوسي الذي يرى أن النساء بطلات وزوجات مؤمنات مخلصات لأزواجهن.
ومن المعلوم أن "السُتي" هو طقس هندوسي يقضي بأن تساق المرأة التي يتوفى زوجها للموت من بعده في احتفال كرنفالي لتحرق جسدها مع جثة زوجها، تعبيرًا عن عدم الرغبة في الحياة من بعده، وإخلاصًا له. ويعود أصل الكلمة لاسم الإلهة الهندوسية "ستي" التي أحرقت نفسها، لأنها لم تستطع الصبر على إهانة أبيها "داكشا" لزوجها "شيفا"، وتستخدم هذه الكلمة للإشارة إلى أن المرأة "امرأة طاهرة".
وهكذا ووفقًا للمنظور البريطاني فقد اعتبر الطقس الهندوسي جريمة نكراء، وألغي بقرار حكومي، رغم معرفة الإنجليز أن ذلك القرار سيؤدي حتمًا لزعزعة الثقة بينهم كمستعمرين وبين الهندوس كتابعين، لأن الأمر يتخطى إلغاء ممارسة تقليدية لعادة سارية إلى إلغاء شعيرة دينية مقدسة، وكرست كل النصوص والمقالات الكولونيالية اهتمامها الفائق على اعتبار أن "الستي" شعيرة بربرية وأن ممارسيها متخلفين، وأن المنقذ البريطاني جاء في الوقت المناسب ليقضي على كل تلك الهمجية، مما سيضفي طابعًا حضاريًا على التواجد البريطاني في الهند كما توضح لنا غياتري في مقالتها.
المؤسف حقًا تهنئة الضحايا لبعضهن في عيد المرأة الذي بات افتراضيًا كبقية الأعياد وبكل المقاييس
غير أن وجهة النظر الهندوسية المخالفة لرؤية البريطانيين، كانت تقضي بالانتباه إلى أن "الضحية المزعومة" لا تجبر على أداء واجبها الديني الذي تؤمن به، فالشعيرة الهندوسية كانت غالبًا بموافقة النساء اللاتي يعتقدن بأن واجبهن المقدس يحتم عليهن الموت إلى جانب أزواجهن. وهكذا فقد اعتبر الهنود أن القرار كان مجحفًا ومصادرًا للحريات.
اقرأ/ي أيضًا: ما يجب أن يقال في يوم المرأة
وتوضح سبيفاك أن صوت الضحية ضاع بين وجهتي النظر السابقتين، لأن وجهة النظر الأولى حرمتها من ممارسة حريتها الدينية، ووجهة النظر الثانية صادرت حقها في الرفض والإدانة لما يمكن أن يكون انتهاكًا لحياتها. ورغم أن مسألة "الستي" هذه ليست محصورة بالهند، ففي مذكرات ابن فضلان مثلًا يورد بأن الروس قد أحرقوا الخادمة على ظهر سفينة سيدها بعد موته بناء على رغبتها الكاملة، ويمعن وصف تلك الحادثة التي تقشعر لها الأبدان، من حيث التفنن في قتل الفتاة، إلا أن امتداد الطقس الديني الهندوسي لعصور قريبة كان سببًا في تكريس نظرة نمطية قاسية خدمت مصالح القوى الاستعمارية الكبرى كالإنجليز.
قد يكون من المفيد فعلًا مراجعة الأمور وإحالتها لعواملها الأساسية اجتماعيًا واقتصاديًا ودينيًا، وقد نتفق مع الكاتبة في أن غياب صوت التابع هو النتيجة المؤسفة، لكن المؤسف الحقيقي والأكيد حاليًا أن تهنئة الضحايا لبعضهن في عيد بات افتراضيًا كبقية الأعياد وبكل المقاييس.
هي النار التي رميت أجساد الجميع في أتونها، نار الحروب، مع اختلاف المعايير، فلا المستعمر حاضر بشكله التقليدي الكولونيالي، ولا النار حاضرة بشكلها الاعتيادي الوهاج. يبقى أن نفكر فيما بعد عيد المرأة أسوة بما بعد الكولونيالية، وأن نفكر في ما بعد غياب الأصوات وغياب الضحايا نفسها.
اقرأ/ي أيضًا: