ظهر نمر في غابة قريبة من إحدى القرى؛ ولعدة أسابيع كان النمر يهاجم أهل القرية أثناء عودتهم من حقولهم إلى القرية أو وهم في طريقهم إليها. هو نمر عجوز، ومن المعروف عن الحيوان المفترس أنه عندما يطعن في السن يفقد خفة حركته فيعجز عن مهاجمة فرائسه الطبيعية من الحيوانات الأخرى، لذلك ستحول إلى بني الإنسان ويتربص بهم وهم يمرون بالقرب من الغابة لأنهم أقل قدرة بكثير من بني الحيوان على الجري عند مواجهة الخطر.
وبعد أن عجزوا عن مواجهة النمر قرروا اللجوء إلى الإمبراطور الذي يملك بالتأكيد من الوسائل ما هو كفيل بالقضاء على هذا الحيوان المتوحش أو على الأقل منعه من مواصلة افتراس الناس. ذهب وفد منهم إلى قصر الإمبراطور فرحب بهم واستمع لهم باهتمام وهم يشرحون له تفاصيل الكارثة التي يتعرضون لها يوميًا.
وبعد أن انتهوا من حكايتهم، استدعى الإمبراطور كبير حجّابه وأمره بإحضار ورقة وقلم وأملاه النص الآتي: من إمبراطور الصين إلى النمر الوغد الذي يهاجم سكان القرية من الفلاحين البسطاء الذين لم يرتكبوا خطأ في حقك، تحية طيبة وبعد، نحن نشعر باستياء شديد لما فعلته بالناس، ونطلب منك أن تمتنع فورًا عن ممارسة أفعالك العدوانية وإلا واجهت أوخم العواقب وأشد العقوبات، والتوقيع.
السبب الرئيسي لصدوره يعود في الأساس إلى مطالبات من الاتحاد الأوروبي لمصر بتقديم قانون لمنع الهجرة غير الشرعية، وعرضه في هذا التوقيت ليكون حائط صد لمنع الهجرة
وقّع الإمبراطور الرسالة التي ختمها بخاتمه، وذهب بها الحاجب إلى الغابة ومعه عدد من معاونيه. وعلى مشارف الغابة توقف الوفد، وبصوت قوي رددت الغابة أصداءه صاح كبير الحجّاب: أيها النمر العجوز المجرم، معي رسالة لك من الإمبراطور، اخرج لتتسلمها.
أطل النمر برأسه من خلف دغل كثيف، وألقى نظرة على الحاجب وأعوانه ثم أخذ يمشي الهوينا سائرًا في اتجاههم. وإذا بأحد معاوني كبير الحجّاب المسؤول عن الأرشيف (تسلم الوارد وتسليم الصادر على الدفتر الذي يعرفه الموظفون باسم السركي) قد أخرج دفتره وسجّل الرسالة التي سيوقع النمر على استلامها، إلا أنهم فوجئوا بالنمر يفعل شيئًا آخر.
قفز النمر على موظف الأرشيف، الذي كان أقرب شخص إليه، ثم قفز على كبير الحجّاب وأخذ في التهام الاثنين. بقية أعضاء الوفد الإمبراطوري فعلوا ما يجب أن يفعله أي عاقل في هذا الموقف، أطلقوا سيقانهم للريح.
أما الأمر الغريب حقًا، كما قال أحد أهالي القرية، وكان يراقب الواقعة من فوق تل قريب، فهو "أن النمر بعد أن التهم الرجلين، وضع الرسالة التي تجمل الأمر الإمبراطوري في فمه وأخذ يمضغها في تلذذ ثم ابتلعها".
اقرأ/ي أيضًا: 5 تصريحات مثيرة للجدل لـ"السيسي" في "غيط العنب"
ما الذي ذكّرني بهذه الحكاية؟
على الأرجح ما ذكّرني بها هو الأخبار الصادرة منذ أيام بخصوص إقرار الحكومة المصرية قانونًا للهجرة غير الشرعية. 34 مادة يتشكل منها مشروع القانون الذي أرسلته الحكومة إلى مجلس النواب؛ لمناقشته في اجتماع لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، من دون أن تأتي أي مادة منه إلى البعد الاجتماعي للمهاجرين والمشكلات الناجمة عنها، معتمدًا فقط على النصوص العقابية لمهرّبيهم، وهو ما اعتبره بعض المراقبين بمثابة عملية تحصيل حاصل لأزمة تحصد كل يوم أرواح الشباب دون التطرق للأسباب الحقيقية.
الأمر الآخر الأكثر فداحة هو أنه وبغض النظر عن مواد القانون وتفاصيله، فإن السبب الرئيسي لصدوره يعود في الأساس إلى مطالبات من الاتحاد الأوروبي لمصر بتقديم قانون لمنع الهجرة غير الشرعية، وعرضه في هذا التوقيت ليكون حائط صد لمنع الهجرة، أي أن هذا القانون أصلًا صادر عن الاتحاد الأوروبي!
عندما تحدث كارثة يتم عقاب المسؤولين عنها والمتسببين فيها، أما في مصر فيخرج المسؤولون الرسميون ببيانات تحاول ألا تقول شيئًا واضحًا، ثم بعد أيام قليلة تخرج أنباء عن قرب صدور قانون جديد لمعالجة المشكلة التي تسببت في الكارثة إياها.
وفي كتالوج البيروقراطية المصرية إذا لم يكن هناك قانون رادع، فسنصدر تشريعًا جديدًا. أي إذا كان النمر، نمر الفساد والإهمال، في غابة البيروقراطية قد التهم من قبل كل التعليمات والقرارات والقوانين التي تمنع مراكب الهجرات غير الشرعية من الغرق براكبيها في البحر فلابد أن نرسل له بأمر حكومي جديد.
كثرة التشريعات تحوّلها في أفضل الأحوال إلى قرارات إدارية يسهل الالتفاف حولها وبذلك يفقد الناس الإحساس بجديتها وأهميتها وأولهم هؤلاء المنوط بهم تنفيذها
الحل الوحيد الحاسم كما تراه البيروقراطية في مواجهة أي مشكلة هو أن تصدر قانونًا جديدًا. علمًا بأن مخازن التشريع في مصر، كما يعرف الجميع، قد امتلأت بالقوانين إلى الدرجة التي لا نتصور معها أن تتسع لتشريع جديد.
أسهل حل في العالم في مواجهة مشكلة ما هو إصدار قانون جديد، ليأخذ مكانًا مريحًا على الرف بجوار زملائه السابقين. إلا أن القوانين للأسف لا تمنع الناس من ارتكاب الأخطاء المميتة أو اعتماد الاختيارات الخاطئة، ولكن الإصرار والقدرة على تنفيذها هو الكفيل بذلك.
إن كثرة التشريعات تحوّلها في أفضل الأحوال إلى قرارات إدارية يسهل الالتفاف حولها وبذلك يفقد الناس الإحساس بجديتها وأهميتها وأولهم هؤلاء المنوط بهم تنفيذها. (بالطبع هذا الكلام لا ينطبق على القوانين القمعية التي يصدرها النظام الحاكم من أجل الحفاظ على بقائه).
نحن جميعًا نشعر بالحزن لهؤلاء الراحلين، ولكنه حزن سيختفي في أيام ليسكن إلى الأبد في قلوب أهلهم وأبنائهم ومحبيهم، وهذا ما يتطلب منا ألا نشعر بالحزن فقط، بل بالخجل من أنفسنا، في هذا الجو الذي يغلب عليه طابع البلادة والهرب من المسؤولية.
الحكومة تحاول أن تنفض يدها من مسؤولياتها تجاه توفير حياة كريمة للمواطنين في وطنهم، وبدلًا من ذلك تلوم الضحية ثم تصدر قانونًا لا يُصلح شيئًا مما أفسدته سياسات الأنظمة المتعاقبة على حكم مصر، والاتحاد الأوروبي يصارع من أجل منع الفارين من الحروب من الوصول إلى بلدانه بدلًا من أن يتكفل صقوره بالقيام بمحاولة جادة لوقف تلك الحروب وبالتالي ينتفي السبب الرئيسي للهجرة وينتهي "صداع المهاجرين" بالنسبة إليهم.
والنتيجة؟ دائرة مستمرة من الأخطاء المميتة والقوانين التي تُبقي على الحال كما هو.
اقرأ/ي أيضًا:
الهجرة غير الشرعية في مصر.. قصة تُكتب من جديد
بطل لامبيدوزا الصغير.. أطفال مصر يهاجرون!