لا يختلف الفاعلون السياسيون والمدنيون في تونس وقبلهم المواطن البسيط على وجود أزمة، بيد أنه ظلّ الخلاف حول طبيعتها وتكييفها وبالضرورة تباعًا في سبل معالجتها. حين قراءة نصّ مبادرة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي لتشكيل حكومة وحدة الوطنية يتأكّد أننا أمام أزمة حكم، وليست أزمة حكومة حالية يجب تعويضها بأخرى.
إن أصل التطبيب هو التشخيص وإن كان الخلل لاحق بالمُشخِّص أو بموضع التشخيص وبالضرورة بنتيجته، فالعلاج الموصوف إما يزيد في الدّاء أو يؤخر الشّفاء، وذلك هو الظّاهر في مبادرة الباجي.
يقول نصّ مبادرة الباجي قائد السبسي لتشكيل حكومة وحدة الوطنية إننا أمام أزمة حكم وليست أزمة حكومة
تحدّث السّبسي عن الوضع السياسي ببرود شاحب بعرض لثنائية الانتقال من دولة الحزب الواحد إلى "الأحزاب المتنوّعة"، والإشادة بـ"المكاسب الوطنية" دون إشارة لدستور البلاد الذي من المفترض أن يكون رئيس الجمهورية حاميًا له. وهو الافتراض الذي نفته الممارسة من جانب السّبسي في أكثر من مناسبة وهو ما عكسه الحكم بعدم دستورية أكثر من قانون مثير للجدل ختمه بنفسه، في حين كان بإمكانه ممارسة دوره السياسي التعديلي وحقه في الردّ لضمان أقصى درجات التوافق الوطني حول القوانين الأساسية على غرار قانون المجلس الأعلى للقضاء وقانون المؤسسات المالية والبنوك.
اقرأ/ي أيضًا: عن المطران الغائب يوحنا إبراهيم
وفي نفس الإطار، يجيء الحديث حول مبادرة السبسي لقانون مصالحة اقتصادية خارج مسار العدالة الانتقالية، وهي مبادرة مشوبة بالعيوب الدستورية تخفي غياب الحاضنة السياسية لهذا المسار التاريخي الذي تجاوزه السّبسي في تناوله للوضع السياسي في ورقته.
وفي الجانب الاقتصادي، لا يتمثل العطب في عجلة الإنتاج كمشكل جذري للأزمة الاقتصادية، بل هو مشكل بالتتابع مما يستدعي طرق الأبواب المقفلة أو المسكوت عنها. هناك مأزق رؤية استراتيجية وسياسة اقتصاد دولة، يحتاج لمعالجة تتجاوز الحديث الإنشائي حول عناوين لا خلاف حولها كدفع التنمية في الجهات الداخلية، واستقلالية القرار الوطني، وتشجيع الاستثمارات وغيرها. إن الخشية أن تواصل تونس السير في طريق يفاقم الأزمة الاقتصادية في جذورها. وإن كان من اللّازم المضي في إصلاحات مؤلمة، فلتكن في إطار برنامج إنقاذ وطني يتمّ إعداده بعيدًا عن منطق المغالبة من جهة والإملاءات من جهة أخرى.
وأما الحديث عن مكافحة الفساد، فهي لا تستدعي أساسًا إلا إرادة سياسية حقيقية وهي إرادة لا تبدو بيّنة بالشّكل المطلوب رغم الشعارات المُعلنة. ما زالت منظومة الفساد التي نمت واستكرشت من أموال المجموعة الوطنية باقية وربما زادت تمدّدًا بفضل تمتينها لشبكات المصالح المتعدّدة في مختلف المجالات. فقد صرّح قبل أيام برلماني كان ينتمي إلى حزب الاتحاد الوطني الحرّ المشارك في الحكومة بأن وزراء الحزب مكلّفون بمهمّة من رئيسه لابتزاز رجال الأعمال من أجل تمويل هذا الحزب. ولا يزال رئيس هيئة مكافحة الفساد يشكو نقص أبسط الإمكانيات لتسيير هيئته. وتحوم شبهات فساد في قطاعات عدة منها النفط والأدوية، ويقف عدد من رجال الأعمال المتورطين في شبهات فساد وراء أحزاب حاكمة.
اقرأ/ي أيضًا: حادثة أورلاندو ودعاية مكافحة الإرهاب المسلم
تونس بصدّد التحوّل إلى ديمقراطية عرجاء، تكون فيها الطبقة الحاكمة رهينة لمنظومة فساد لم تسقط بسقوط رأس النظام
لقد تأكد أن أوّل تطبيق للنظام السياسي بدا مشوّهًا في ظلّ رئيس حكومة ضعيف الشخصية لا يملك زمام المبادرة بيده ولا يقدر على الخروج من عباءة رئيس الجمهورية الذي يبدو أنه قرّر تغييره عبر مبادرته الأخيرة. وهو تغيير كان يدفع إليه منذ فترة نجله حافظ الذي بات يقود حزب نداء تونس بعدما استطاع أن يكسب إلى حدّ الآن معركة إدارته، بعد صراع بسط نفوذ وحماية مصالح في الخفاء.
يشبه الوضع في تونس اليوم مرحلة أوساط الثمانينيات مع رئيس جمهورية طاعن في السنّ يتصارع من حوله المستشارون والأقارب للتأثير على قراراته، وأزمة اقتصادية خانقة والمانح الدّولي يفرض برامج اقتصادية تحت عنوان الإصلاح، ومعارضة أشرس فيما بينها من على السّلطة الحاكمة فيما يمكن تسميته حرب "الوصفة البديلة".
المشكلة الأساسية ليست في حكومة الحبيب الصّيد ليتمّ تغييرها بحكومة أخرى، وإن كان ترويجًا تحت عنوان "الوحدة الوطنية"، بل إنها تتمثّل في غياب تشخيص جدّي للأزمة ومخاطرها، فالخشية أن البلاد بصدّد التحوّل لديمقراطية عرجاء، تكون فيها الطبقة السياسية الحاكمة وكيلة ورهينة لمنظومة فساد لم تسقط قطعًا بسقوط رأس النظام، وهي منظومة تستثمر اليوم في الأحزاب وفي مراكز القرار في الوقت الذي يمثّل تفكيكها أحد الأهداف المعلنة لمسار العدالة الانتقالية.
اقرأ/ي أيضًا: